يعتقد بعض المؤرخين أن الرحالة الإيطالي الشهير ماركو بولو لم يذهب مطلقاً إلى الصين، لكن حتى لو لم يكن ذلك التاجر الإيطالي من مدينة البندقية في القرن الثالث عشر قد رأى مدينة هانغتزو الساحلية بنفسه، فإنه يكون قد عكس الروعة التي ألقتها تلك المدينة في نفوس غيره من التجار الأجانب، ولاسيما حين وصفها بأنها "من دون شك المدينة الأروع والأكثر نبلاً في العالم".

Ad

وكتب يقول عن مدينة هانغتزو، التي أطلق عليها "كينساي" وكانت واحدة من أكثر من 1200 مدينة رائعة وثرية في جنوب الصين، "مع الروعة التي لا يكاد عقل يصدقها، فإن كل شيء فيها يتسم بنطاق رحب وضخم يجعل من الصعوبة بمكان وصفها بالكلمات".

في زمن ماركو بولو كانت القصور المزينة والطرقات المعبدة والتصاميم الرائعة للمدن الصينية هي ما يحدث الانطباع الأفضل لدى الزوار، وفي المدن الضخمة اليوم يتمثل ذلك الانطباع ببعض أعلى ناطحات السحاب في العالم، وأكبر مراكز التسوق المتصلة والمترابطة عبر شبكات قطارات فائقة السرعة، وإذا سار كل شيء وفقاً لخطة الحزب الشيوعي، فإن العقدين المقبلين سوف يثيران المزيد من الإثارة والتشويق.

أرباح مذهلة

بحلول سنة 2020 ستتمدد شبكة القطارات الفائقة السرعة بما يقارب الثلثين، مع إضافة 4300 ميل أخرى، وبحلول ذلك الوقت سوف تتصل بتلك الشبكة تقريباً كل مدينة يبلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة أو أكثر، وسيتدفق عشرات الملايين من المهاجرين القادمين من المناطق الريفية.

بين اليوم وسنة 2030- يقول البنك الدولي– يحتمل أن يبلغ متوسط الزيادة في عدد سكان المدن حوالي 13 مليوناً في السنة، أي ما يقارب عدد سكان طوكيو. وفي سنة 2030 سوف يقطن المدن الصينية ما يقارب المليار نسمة، أو حوالي 70 في المئة من عدد السكان مقارنة بالنسبة الحالية البالغة 54 في المئة. وبحسب البعض من التقديرات سوف يصل عدد سكان المناطق الحضرية إلى ذروته في سنة 2040 ليقترب من المليار نسمة، وكما يقول رجل الأعمال الأميركي جيمس ماكغريغور في كتابه بعنوان "مليار من العملاء" الذي نشر في سنة 2005، فإن فكرة وجود مليار منفق صيني أصبحت ترمز إلى "حلم الأرباح المذهلة بالنسبة إلى أولئك الذين يصلون الى هنا أولاً، والأمل الكبير الذي سحر التجار الأجانب طوال عقود من الزمن".

بعد تسلمه رئاسة الحزب في سنة 2012 أطلق تشي جين بينغ (وهو الرئيس الحالي) اصطلاحاً ملفتاً عن "الحلم الصيني" معبراً فيه عن توقعات السنوات العشر التالية من الحكم في البلاد. وقد مثل ذلك ابتعاداً لافتاً عن شعارات الحزب التقليدية المفعمة بالتعابير الأيديولوجية، وتلك الجملة التي تحفل بها الآن الخطابات الرسمية والعديد من الكتب والأغاني أصبحت تهدف إلى جذب السكان الحضر الذين يسعون إلى التمتع بمستويات الراحة التي ينعم بها نظراؤهم في العالم الغني.

قبل 15 سنة فقط كادت مثل تلك الطبقة المتوسطة ألا توجد في الصين، وفي سنة 2011 عندما وصلت نسبة سكان المناطق الحضرية إلى 50 في المئة أصبح من الواضح أن مصير الحزب يتوقف على استقرار المدن وعلى قناعة سكانها من الطبقة المتوسطة. كما أن البلاد الريفية إلى حد كبير التي انطلق دينغ زيهاو بينغ (وهو من أصول ريفية) لإصلاحها وفتحها في أواخر السبعينيات من القرن الماضي قد أصبحت إلى حد كبير حضرية في تركيزها الاقتصادي والسياسي. وبفضل مد الهجرة بشكل رئيسي ارتفع عدد سكان المناطق الحضرية في الصين إلى أكثر من 500 مليون نسمة منذ إطلاق دينغ لتلك الإصلاحات: ما يعادل سكان الولايات المتحدة و3 أمثال سكان بريطانيا.

النمو الحضري

ويعتبر لي كيكيانغ الذي أصبح رئيساً للوزراء في سنة 2013 أن المزيد من التوسع في المناطق الحضرية مسألة حيوية مهمة بالنسبة إلى النجاح الاقتصادي في الصين، وقد وصف ذلك بأنه "محرك عملاق" للنمو، كما أن السيد لي إضافة إلى مسؤولين آخرين يحرصون على اقتباس كلمات جوزيف ستيغليتز الاقتصادي الأميركي الحائز جائزة نوبل الذي قال إن الابتكار التقني في أميركا و"التحضير" في الصين سوف يكونان "مفتاحين" لتطور وتنمية البشرية في القرن الحادي والعشرين.

من جهة أخرى تقر خطة كبيرة جديدة للمدن الصينية يشرف عليها رئيس الوزراء ونشرت في الشهر الماضي بوجود عدد من المشكلات التي تشمل ازدياد سوء معدلات التلوث واختناقات المناطق الحضرية والتوترات الاجتماعية المتنامية. وتشير تلك الخطة أيضاً إلى تخلف السياسة الحضرية في الصين عن غيرها في دول أخرى ذات مستويات مماثلة من التنمية (حوالي 60 في المئة بصورة نموذجية) مع استمرار وجود "مساحة واسعة تماماً" للمزيد من النمو الحضري.

يذكر أن الوضع الصحيح للمدن سوف يساعد الصين على استمرار النمو بسرعة في السنوات المقبلة، والعكس سيكون كارثياً لأنه سيفاقم من مستويات التفاوت في الدخل واللامساواة (التي يقول البنك الدولي إنها اقتربت من "مستويات أميركا اللاتينية" رغم إصرار المسؤولين الصينيين على أنها تحسنت في الآونة الأخيرة)، ويزيد من انتشار أحياء الفقراء، ويسارع من تغيرات المناخ العالمي (تستهلك المدن ثلاثة أرباع طاقة الصين التي تأتي بشكل رئيسي من الفحم)، فضلا عن أنه يزيد من حدة الاضطرابات والقلاقل الاجتماعية.

المياه العميقة

بعد أكثر من عقد من النمو البارز في الصين، بمعدلات تزيد في معظمها على 10 في المئة، بدأت الشكوك تتردد في الداخل والخارج على حد سواء حول استدامة "النموذج الصيني". فقد بدأ النمو الاقتصادي في البلاد بالتباطؤ وأفضى الإسراف في الانفاق من جانب الحكومات المحلية إلى تراكم ديون ضخمة، كما أن أعداداً متزايدة من أبناء الطبقة المتوسطة في الصين يبحثون عن منافذ لهم ولعائلاتهم وأصولهم للعيش في الخارج، وقد كشفت الفضائح التي شملت كبار المسؤولين عن فساد على مستوى ضخم، وتنجح الرقابة بصورة عامة في منع انتشار الرسائل المعادية للحزب على نطاق واسع، ولكن مواقع إلكترونية صغيرة لها أتباع بالآلاف لا تزال تنقل بجرأة انتقادات ضارة ومسيئة.

ويصف السيد تشي مشاكل البلاد وأسلوبه في حلها بتعابير زاهية، ويقول إن الإصلاحات دخلت "منطقة المياه العميقة" وإنه يتعين على الصين أن "تمضي على طريق خطر من أجل تجاوز الحواجز نحو الإصلاح". وسوف تكون الصين من خلال معالجتها للفساد في حاجة إلى تصميم رجل يجب أن "يقطع يده التي عضها ثعبان من أجل إنقاذ حياته"، وقد أعلن الحزب في جلسة للجنة المركزية في شهر نوفمبر أن على قوى السوق القيام "بدور حاسم" وكان ذلك أقوى تعبير يصدر عنه إزاء السوق، ويبدو هذا مثيراً بعد سنوات من التردد في عهد هو جينتاو الذي تراجع عن الإصلاح في وجه مقاومة قوية من جانب مصالح مكتسبة وحكومات محلية ومشاريع ضخمة مملوكة للدولة والطبقة المتوسطة الجديدة التي لا تريد مشاطرة ثمار النمو مع المهاجرين من الأرياف.

أسباب أهمية المدن

تتضمن جميع الإصلاحات الأكثر أهمية التي ينبغي على السيد تشي التعاطي معها ومعالجتها مسألة التحرك صوب المدن الصينية، فيجب عليه إعطاء المزارعين حقوق الملكية ذاتها التي يقدمها إلى سكان المناطق الحضرية، بحيث يصبح بمقدورهم بيع منازلهم التي تعتبر عملية مستحيلة في الوقت الراهن، إضافة إلى التصدي لفوضى أموال الحكومات المحلية التي تعتمد بشدة على الاستحواذ على الأراضي من المزارعين وبيعها إلى المطورين العقاريين، وتخفيف قبضة المشاريع المملوكة للدولة على أرباح الاقتصاد وجعلها تقدم المزيد من الأرباح إلى الحكومة. كما يتعين على الرئيس تشي التحرك بسرعة من أجل تنظيف البيئة الحضرية خصوصاً الهواء الضار بالصحة، ومنع نمو المدن الصينية من الإسهام في تسريع تغير المناخ، وأخيراً عليه البدء بتمكين سكان المدن من المشاركة في تقرير كيفية إدارتها.

القائمة مروعة وملحة في آن معاً، والنمو الذي تحقق في الآونة الأخيرة في مدن الصين أفضى إلى خلق قوتين اجتماعيتين جديدتين ليس في وسع السيد تشي تجاهل مخاوفهما. القوة الأولى هي العدد الكبير من السكان المهاجرين (بمن فيهم الأطفال الحضر للمهاجرين حديثاً من الريف) وهو عدد يشكل أكثر من ثلث إجمالي الحضر البالغ 730 مليون نسمة، ومن الصعوبة بمكان أن يحصل فرد في هذه المجموعة على اعتراف رسمي مثل ساكن مدينة في وطنه مع كل منافع الرعاية ونيل الخدمات العامة التي يوفرها ذلك الوضع، وبقدر يفوق قدرته على نيل جنسية في الولايات المتحدة أو أوروبا إذا أراد الهجرة إليهما. وتخلق المعاملة القاسية لمهاجري الصين في الداخل انقسامات اجتماعية هائلة يمكن أن تتفجر وتتحول الى قلاقل خطيرة.

فقاعة صينية

وتتمثل القوة الجديدة الأخرى بالطبقة المتوسطة الحضرية، التي يعتقد أنها تضاهي في حجمها شريحة المهاجرين، والتي تعد حوالي 260 مليون نسمة، وقد ظلت راضية بصورة معقولة من خلال النمو السريع الذي تحقق في السنوات القليلة الماضية، ولكن ذلك قد لا يستمر لفترة طويلة. وتشعر الطبقة المتوسطة في الصين، شأنها في أماكن أخرى، بالقلق إزاء الممتلكات العقارية: كيفية حمايتها من نزوات المخططين الحضريين ومسؤولي الحزب الشيوعي، وما يحدث للأسعار وما العمل في حال تفجر الفقاعة العقارية. وقد تدفع أسعار المنازل غير المحتملة أو الهبوط الحاد الى موجة احتجاج من جانبي الطبقة المتوسطة، وكذا الحال بالنسبة الى العديد من أخطاء الحزب، ويقال إن فضيحة سلامة غذاء كانت مرتبطة بفساد رسمي في الصين.

ومثل من سبقه يقوم الرئيس الصيني تشي بالقضاء على مؤشرات الاضطرابات في المهد، ويتم إيداع المنشقين الذين عمدوا فقط إلى رفع أعلام احتجاج في مجموعات صغيرة في السجن، ولكن ثمة إشارات إيجابية أيضاً، فقد تسلم مسؤولية أداة حزبية جديدة، تمثل مجموعة صغيرة من المسؤولين ذات شريحة واسعة من الحقائب والاختصاصات وتعمل من أجل تحسين السياسة وتنسيقها والتغلب على المقاومة البيروقراطية للتغيير، ولديها قوة عمل مكرسة لبناء "الديمقراطية والنظام القضائي" على الرغم من أن ذلك قد لا يمضي بعيداً جداً. وقد شن تشي حملة شديدة على الفساد في المستويات العليا، وهي حملة ربما لن توفر علاجاً دائماً لمشكلة الفساد، لكنها يمكن أن تخيف المسؤولين وتدفعهم إلى الإذعان لخططه الإصلاحية.

تباطؤ النمو الاقتصادي

مع تباطؤ النمو الاقتصادي وانكماش فائض العمالة في الأرياف ستقلص سرعة النزعة إلى تحديث المدن والمضي قدما في المزيد من إقامة المناطق الحضرية، وخلال السنوات القليلة الماضية انتقل حوالي 9 ملايين شخص إلى المدن في كل سنة، ويتوقع جين سانلين الباحث في "مركز بحوث التنمية"، الممول حكومياً، أن يهبط العدد إلى 7 ملايين في النصف الثاني من هذا العقد، وإلى 5 ملايين في حقبة العشرينيات من القرن الحادي والعشرين، ويقول إنه بحلول سنة 2017 سوف يختفي ذلك الفائض في قوة العمل في المناطق الريفية.

يلاحظ المسؤولون الصينيون أن سرعة التحضر (التمدن) في بلادهم كانت أسرع كثيراً منها في الدول الغربية خلال فترات التحول الصناعي، وقد احتاجت الصين إلى 30 سنة فقط من أجل الانتقال من نسبة 20 في المئة من التحضر إلى 54 في المئة اليوم. وتطلبت الرحلة ذاتها في بريطانيا 100 سنة وفي أميركا 60 سنة. وعلى أي حال، في أوقات أحدث كان نمو السكان في المناطق الحضرية في الصين أبطأ منه في دول مثل كوريا الجنوبية وإندونيسيا خلال فترات التنمية الاقتصادية السريعة، ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى سياسة التمييز الصينية ضد المهاجرين واحتكار الدولة لمبيعات الأراضي الريفية.

وبكل المقاييس كان التحضر في الصين لافتاً للانتباه، وتوشك شنغهاي على الانتهاء من بناء ناطحة سحاب من 121 طابقاً من تصميم أميركي وسوف تكون ثاني أعلى مبنى في العالم بعد برج خليفة في إمارة دبي. كما أن مقاطعات حضرية جديدة كاملة وخطوط مترو ومطارات عصرية وطرقات داخلية سريعة قد شيدت بوتيرة ومستويات تفخر بها معظم الدول، ولكن الصين أخفقت في جني ثمار نمو المدن بصورة تامة، وأصبحت هذه مشكلة ضاغطة في وجه تراجع العائدات الناتجة عن انتشار غابات الخرسانة والأسمنت وشيوعها في بقاع البلاد.