معرض للفرنسي ماتيس (1869 - 1954) في متحف «تَيْت مودرِن». يحتوي على أعماله التي انشغل بها في السنوات الأخيرة من حياته، في فن «القص واللصق». ليس لديّ فكرة واضحة عن مرحلة ماتيس هذه. في المعرض الكبير عرفت أن الفنان، وهو في الواحد والسبعين من عمره، أصيب بسرطان القولون، الذي استؤصل بعملية جراحية أقعدته عن الحركة. من سريره، ومن كرسيه المتحرك عثر على ضالة فنية تتيح له مواصلة العمل، دون الكانفس وحامل اللوحة. هذه الضالة وجدها في قصّ الورق الزاهي اللون (لون الغواش)، وبأشكال إنسانية أو مستوحاة من الطبيعة، ولصقِه على الجدار. لقد وجد في هذا المسعى «حياته الثانية»، على حدّ تعبيره. ولعله لم يكتف بهذا الاكتشاف، بل وجد فيه فن المستقبل، وبأن الفن التشكيلي كله سيهجر مسندَ اللوحة وإطارها إلى الأبد. وهذه نزعة فرنسية أعرفها منذ دعوة الموسيقي بولَيز لتفجير دور الأوبرا في العالم، ودعوى بارت بموت المؤلف، ودعاوى موت الرواية والنقد الأدبي... الخ.

Ad

المعرض يضم 130 عملاً تتنوع حجومها. عبرتُ عليها بخفة من يستعرض شيئاً لا يخلو من تشابه وتكرار مُتعمّد. مستمتعاً بيناعة وطراوة طفولية في الألوان الصافية لطيور محلّقة، وأسماك عائمة، ونحل هائم، ونجوم وامضة وأجساد راقصة. «قص الورق ولصقه» يقول ماتيس: «أتاح لي أن أخطط باللون مباشرة، بدل أن أضع الخطوط ثم أملأ الفراغات داخلها بالألوان». الألوان التي كان يستخدمها عادة ما تتسم بالقوة، حتى أن طبيبه نصحه باستخدام نظارة غامقة وهو يعمل. هناك حركة ناعمة ملونة لا تهدأ، على امتداد جدران المعرض. تعيد لك مسرات اتصف بها أسلوب ماتيس بشكل عام. فهو لم يسمح لاضطراب الحياة المحيطة آنذاك، والحرب ضمناً، أن تُفسد ألوانه بالسخام. ولكني بتجوالي كنت على قناعة بأني أرى عملاً ممتعاً، لا عملاً عظيماً. وأن ماتيس الذي أعرفه في مراحل حياته الفنية قبل مرحلة مرضه (1941) كان قد عبّد جادة تشكيلية لا عهد للفن بها، يضاهي بذلك معاصره بيكاسون استحق عليها لقب «حيوان الألوان البري» من قبل النقد المعاصر له. وأن ما أراه الآن ترجع جذور صوره إلى هناك بالتأكيد، لكنها ترجع مثل ظلال لا تخلو من مجانية واعتباط. فكرت بذلك عن قناعة، غير معززة بجرأة. حين استطلعت المراجعات النقدية في الصحافة الثقافية، وجدت ما يلجمني من إعجاب منفلت العقال، حتى بلغ مقاربةَ تزيين ماتيس بالأسلوب ذاته لبهو كنيسة في مدينة ﭭونس بتزيين مايكل أنجلو في المُصلّى البابوي الشهير في الفاتيكان. الناقد براين سيويل قال عن هذه المقاربة «إنها ضربٌ من السخف»، فمنحني شجاعة. لأن هذا الناقد وجد ما وجدتُ من يسر عمل يتمتع بطواعية الأطفال دون مبالغة في إضفاء صفة العظمة، فقال رأيه بتلقائية من يتنفس.

نشأ ماتيس في منطقة صناعية جنوب فرنسا، وكان ابن تاجر أجواخ، وحفيد حائك كتان. فهو منذ نشأته الأولى عاش وسط مواد مؤلبة للعمل، جعلته بارعاً في استخدام المقص والقماشة أو الورق منذ صغره. ورغم أنه بدأ متأخراً نسبياً مع الرسم، وبدأ تقليدياً، فإنه سرعان ما تبنى عام 1896 باليتة الانطباعيين فاتحة الألوان زاهيتها. في الاستوديو الذي يعمل به في منطقة ﭭونس خارج مدينة «نيس» بدأ ماتيس المُقعد يؤلف مباشرة على الجدار بمعونة مساعد له. نحن نراه في عرض الفيديو منشغلاً عام 1952، وهو في الثاني والثمانين من عمره، بمعونة أساسية من مساعده، في قص الورق الأزرق ومحاولة رفع القصاصات الكبيرة إلى الجدار، لتشكيل لوحة «العرايا الزُرق» المعروفة. ولكننا نرى أيضاً جرأته الكبيرة في استخدام المقص، واستخراج الشكل الدقيق من الورق الهش.

معرض ماتيس يليق بأول الصيف. فذكرى ماتيس في كيانك حين تدخله زاهية ديناميكية وراقصة. وحين تخرج منه بعد مهرجان القص واللصق تجد نفسك على ما هي عليه حين دخلت. وتستعيد على الأثر مؤثراتها في ورق الجدران، والستائر، وأغطية الموائد والأسرة، وثياب النساء في الحياة الحديثة حيث تذهب.