الإعلامي الكبير حمدي قنديل يروي ذكرياته: «عشت مرتين»

Ad

في أول لقاء له مع المشير عبدالفتاح السيسي حين كان مديراً للمخابرات الحربية وهو يحمل رتبة لواء، مروراً بلقاءاته بالفريق أحمد شفيق والرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور، يختتم الإعلامي الكبير حمدي قنديل سيرته الذاتية، ويواصل في هذه الحلقة الأخيرة سرده لأحداث العام الماضي، حيث منعته ثورة 30 يونيو من الظهور على شاشة التلفزيون المصري، وموقف وزيرة الإعلام المصري درية شرف الدين منه، لافتاً النظر إلى أن القاسم المشترك الأعظم بين عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك وعهد ما بعد ثورة 30 يونيو، هو منعه وحجبه عن مشاهدي التلفزيون المصري.

واختتم الإعلامي الكبير بالإشارة إلى أن النهاية المثلى لدراما حياة إعلامي عربي مثله لم تحدث بعد، «لأن الستار لم يسُدل بعد» على حد تعبيره.

نقاش المستقبل

في أحد أيام مارس 2011، تلقيت مكالمة من مكتب اللواء عبدالفتاح السيسي عضو المجلس العسكري ومدير المخابرات الحربية حددت لي موعداً لمقابلته.

يومها عبرت الشارع إلى مبنى المخابرات المواجه لبيتي، فوجدته في انتظاري أعلى السلم المؤدي الى مكتبه، كانت هذه أول مرة ألتقي فيها واحداً من أعضاء المجلس الذي كنّا نعتبره حينئذ حامي الثورة، وكان انطباعي الأول عندما رأيت الرجل أنه متواضع، ودمث الخلق، وخفيض الصوت.

استغرق لقاؤنا نحو ساعات ثلاث، دار فيها الحديث حول المجلس العسكري واستيائه قبل الثورة من الأوضاع التي كانت قائمة، ومما كان يدور من حديث حول التوريث، وقال إنه على الرغم من ذلك كله لم يفكر المجلس لحظة في الانقلاب على الحكم «لأن الانقلاب غير وارد في عقيدة القوات المسلحة»، وأخذ يذكرني بأنه عندما حانت الفرصة بادر الجيش بإعلان موقفه عن طريق المتحدث باسمه، عندما قال في 31 يناير إن «القوات المسلحة لن تستخدم القوة ضد المحتجين، وأن حرية التعبير مكفولة لكل المواطنين الذين يستخدمون الوسائل السلمية»، وبما اتخذته القوات المسلحة من إجراءات بعد ذلك.

تحدثنا كثيراً عن الأوضاع القائمة، وقال إنه يود أن يعقد اجتماعات أسبوعية مصغرة مع بعض الشخصيات المرتبطة بالثورة ليجري معها نقاشاً حول المستقبل، وطلب مني مقترحات في هذا الأمر، كان حديث الرجل يوحي بأنه يمسك من الخيوط قدراً أكبر مما كنت أظن، وبأنه يستطيع ترتيب أفكاره جيداً.

في النهاية قال إن المشير يثق بي كثيراً، ويريد مني أن أقدم برنامجاً يومياً في التلفزيون، رحبت، وسألت: «متى؟».. قال: «يريدك أن تبدأ غداً»، استمهلته يومين أرتب فيهما أفكاري وأجري اتصالاتي.

العودة إلى التلفزيون

حَضَّرت مذكرة بمتطلبات البرنامج من ناحيتي التحرير والإنتاج في صفحة واحدة، وذهبت بها في اليوم التالي إلى المخابرات، ولمّا لم أجد اللواء السيسي سلمتها لمساعده اللواء عباس كامل قبل أن أتوجه إلى المنصورة للمشاركة في المؤتمر، الذي نظمه الدكتور محمد غنيم للدعوة الى التصويت بلا في الاستفتاء على التعديلات الدستورية.

عدت بعد هذه الزيارة حانقاً على المجلس العسكري الذي يخطو لتسليم البلاد إلى «الإخوان»، لكنني وجدت أن الأمانة مع المشير ومع اللواء السيسي تقتضي مني الاعتذار عن تقديم البرنامج.

كان الدكتور سامي الشريف في ذلك الوقت يرأس اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وهو أستاذ بارز في الإعلام، وإن لم تكن لديه خبرة عملية كافية، وكان قد لاقى مصاعب جمة لم تمكنه من تحقيق إنجاز ملموس.

ويبدو أنه رأى أن أسرع وسيلة يحس بها الجمهور العام أن التلفزيون قد التحق بركب الثورة هو أن يجري تعديلاً جذرياً على برنامج التلفزيون الإخباري الرئيسي «مصر النهاردة»، أو استبداله ببرنامج آخر تقدمه وجوه ارتبطت بـ25 يناير، وهكذا اتصلت بي شركة «صوت القاهرة» التابعة للاتحاد بعد شهر من لقائي باللواء السيسي، واقترحت عليَّ تقديم برنامج جديد.

أخذت أُقَلِّبُ طويلاً في الأمر، وأخيراً قررت أن أستكشف سقف الحرية المتاح، فأخذنا في الإعداد للبرنامج أسابيع عدة، واتفقنا على تقديمه باسم «قلم رصاص»، واخترت الطاقم المعاون، وتم تصميم وتسجيل العناوين، وجاء للقائي في «صوت القاهرة» الدكتور الشريف والأستاذة نهال كمال التي كانت رئيسة التلفزيون عندئذ؛ ليطمئنا أن الأمور تسير على ما يرام.

الحق أن اللواء سعد عباس رئيس الشركة يَسَّرَ لي كل إمكاناتها، وأحاطني بكثير من الود، ولكنه عندما اقترب الموعد المحدد لإطلاق البرنامج في مايو 2011 كنت قد أصبحت أقل ثقة في قدرة المجلس العسكري على إدارة البلاد، وفي مدى تحمله لحرية التعبير في تلفزيون الدولة الرسمي.

تشكيل الوزارة

اكتفيت في تلك الشهور الأولى التي تلت قيام الثورة بالظهور في بعض برامج التلفزيون، مثلما فعلت في المناقشة الشهيرة مع الفريق أحمد شفيق عندما دعتنيON TV مع الدكتور علاء الأسواني ضيوفاً على يسري فودة وريم ماجد بحضور نجيب ساويرس، كان ساويرس يومها يخشى أن أكون عنيفاً مع الفريق شفيق، لكن الأسواني خدعه وهاجم شفيق بضراوة في حين كنت أكثر بروداً مما كان يظن.

حافظت على هدوئي لسببين؛ أولهما أن أوازن انقضاض الأسواني الساحق على الفريق شفيق، أما السبب الثاني فلم يكن يعلم به أحد؛ إذ إنني كنت قد قابلت شفيق في مكتبه بعد أن كلف بتشكيل الوزارة، وصارحته بكل ملاحظاتي.

كان قد تأكد يومها أن الدكتور يحيى الجمل مرشح لمنصب نائب رئيس الوزراء، فتشاورت في الأمر مع الدكتور عبدالجليل مصطفى وقررنا الذهاب إليه لحثه على رفض المنصب؛ لأننا كنا نرى أن أعضاء «الجمعية الوطنية للتغيير»، التي كان الدكتور الجمل واحداً من قياداتها، يجب ألا يتعاونوا مع حكومة شفيق التي عينها مبارك.

الجمل محرجاً!

ذهبنا إلى الدكتور الجمل فوجدناه جالساً مع الدكتور أحمد البرعي، جاء الدكتور البرعي ليبلغه أنه مرشح لتولي إحدى الوزارات، وأن زوج ابنته الدكتور هاني سري الدين مرشح لوزارة أخرى، وأنه يرى أن هذا لا يليق؛ لذلك فهو يفضل الانسحاب، ويريد أن يسمع رأي الدكتور الجمل في الأمر.

بعد أن انصرف الدكتور البرعي أبلغنا الدكتور الجمل رسالتنا بوضوح، فقال إنه عازف عن المشاركة في الوزارة خصوصاً أن صحته لا تسمح بذلك، ولكنه محرج أمام إصرار الفريق شفيق الذي زاره في مكتبه في اليوم السابق، ولم ينصرف إلا بعد أن أخذ منه وعداً بالموافقة.

خرجت إلى غرفة مجاورة قابلت فيها ابنته الدكتورة مها، المحامية هي الأخرى؛ لتعيننا في مسعانا لدى والدها، فقالت إنها أبلغته رفضها لمشاركته في وزارة شفيق لكنه لم يستجب، فاتصلت بواحد من أقرب أصدقائه، المهندس حسب الله الكفراوي، الذي رد قائلاً: «قلت له إمبارح بلاش في آخر أيامنا نغلط، لكن الظاهر مفيش فايدة».

عاودت مع الدكتور عبدالجليل الضغط حتى اتجه لي الدكتور الجمل وقال: «أنت تعرف الفريق شفيق جيداً، لماذا لا تذهب إليه، وتشرح له حالتي الصحية، وتطلب منه أن يعفيني من وعدي له؟».

وجهاً لوجه مع شفيق

اتصلت بمكتب الفريق شفيق وطلبت تحديد موعد لأمر عاجل، وعدت إلى البيت ظناً مني أن الموعد سوف يحدد بعد عدة ساعات على أفضل تقدير، لكنني تلقيت مكالمة من مراسم رئاسة الوزارة وأنا في طريقي، أبلغوني فيها أن الموعد بعد ساعة، فعدت من حيث أتيت.

دخلت مجلس الوزراء فأخذ الصحافيون يسألونني إذا ما كنت سأقبل منصب وزير الإعلام وأنا الذي طالبت مرات بإلغاء الوزارة، وسألني أحدهم: ما أول إجراء سأتخذه عندما أتولى المنصب؟ وهنأني بعض أمناء الرئاسة وتمنوا لي التوفيق، وبالطبع لم يصدق أحد من هؤلاء أنني جئت لأمر آخر في الوقت الذي يتقاطر فيه على المجلس المرشحون للمناصب الوزارية المختلفة.

كنت أعرف الفريق شفيق منذ زمن، وكان بيننا ود وتقدير متبادلان، قلت له عند دخولي إليه: «أنت تعلم جيداً أنني سأكون صريحاً وأميناً معك، تعلم كم أقدرك، وأرى أنك واحد من أفضل من يمكنهم تولي مثل هذا المنصب، لكن ذلك كان في الماضي، الآن، شئت أم أبيت، أنت محسوب على مبارك، وزمن مبارك قد ولى، وسوف نظل نطارد رموزه، ولا أريد لك أن تتحمل ما سوف تتحمله؛ لذلك أنصحك ياسيادة الفريق بالاستقالة مهما كان الحرج في ذلك، سوف تواجه ما تأباه على نفسك إذا ما بقيت في هذا الكرسي»، صمت شفيق قليلا، وشكرني على إخلاصي معه، وقال في النهاية ما خلاصته إنه كجندي لا يمكنه الانسحاب من المعركة، وأنني متشائم أكثر مما يجب.

قلت: «على أي حال لم يكن في نيتي أن أكدر عليك يومك بالحديث عن هذا الأمر على الإطلاق، والحقيقة أنني قدمت إليك في أمر آخر يتعلق بالدكتور يحيى الجمل».

أسهبت في الحديث عن العملية الجراحية التي أجريت له قبل أسابيع، وعن الأمراض التي يعانيها، ورجوته ألا يضغط عليه كثيراً بينما هو في فترة النقاهة.

الاعتذار للمشير

كان الدكتور الجمل حينئذ في قاعة الاستقبال ينتظر موعده المحدد سلفاً مع الفريق شفيق، وكان لقائي بالفريق قد تعدى المدة المقررة له بنحو ثلث الساعة، وعندما خرج ليودعني، وجدت الدكتور الجمل ينتظر الدخول.

همس يسألني: «قلت له كل حاجة؟»، قلت: «وأكتر».

بقية الحكاية قالها لي الدكتور الجمل فيما بعد، تحدد موعد حلف اليمين في اليوم التالي، وعندما حاول الاعتذار مرة أخرى اصطحبه الفريق شفيق في سيارته، وقال: «تعالَ معي الآن، وأبلغ المشير اعتذارك بنفسك».

بالطبع لم يكن هناك مجال للاعتذار، شكلت الحكومة، وعين الدكتور الجمل نائبا لرئيس الوزراء، وعانى الفريق شفيق ما عانى، حتى كان لقاؤنا في ON TV الذي استقال في اليوم التالي له، وعين الدكتور عصام شرف رئيساً للوزراء.

عصام شرف

كنت على اتصال دائم مع الدكتور شرف منذ ترك وزارة  النقل في عهد مبارك، وقتها كنت أقدم برنامجي في دبي، وأردت أن أستضيفه في إحدى حلقاته بعد أن فاز بإحدى الجوائز الدولية المرموقة، لكنه اعتذر عندما أبلغته أنني سوف أسأله أيضاً عن خروجه من الوزارة، ومع ذلك حرصنا على التواصل.

صدمت عندما كلف بتشكيل الوزارة لأن خبرته لم تكن تؤهله لهذه المسؤولية؛ ولأن هناك من هو أقرب منه إلى الثورة وأقدر.

صحيح أنه كان من الوزراء السابقين القلائل الذين ظهروا في «ميدان التحرير»، لكنه لم يتأكد لي أنه قاد، كما كان يقال، مظاهرة أساتذة جامعة القاهرة التي سارت إلى «ميدان التحرير» في الأيام الأولى للثورة، بل إن بعضا من رموز حركة 9 مارس أبلغوني أنهم لا يعرفون إذا ما كان قد شارك في المظاهرة أم لا، والأرجح أن ترشيحه للحكومة بدأ بورقة سربها إلى «ميدان التحرير» اللواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية وعضو المجلس العسكري ضمت ثلاثة أسماء يرشح الميدان واحداً منها لرئاسة الوزارة.

على الرغم من ذلك كنت أعرف أن الدكتور شرف شخصية نقية وجادة، وإن لم يكن حازماً بما فيه الكفاية.

أيدته آملا أن يوفق، وأعلنت بعد أشهر عدة من توليه المنصب مساندتي له وتحفظي في الوقت نفسه في مقال كان عنوانه «نعم لعصام شرف بشرط»، ولكنني بعد شهور أخرى طلبت منه أن يستقيل عندما كان هناك اتجاه قوي لتطبيق العزل السياسي على أعضاء لجنة سياسات الحزب «الوطني»، وكان شرف عضواً في هذه اللجنة.

وقد عطل تنفيذ العزل عندئذ السؤال الذي كان يدور في الكواليس: «ونعمل إيه في موضوع عصام شرف؟»، هكذا كان اقتراحي أن يرفض هو الاستثناء ويستقيل، ولكنه لم يفعل، وفي النهاية اضطر إلى تقديم استقالته في 21 نوفمبر 2011.

اجتماع مع الرئيس منصور

عندما دعا الرئيس عدلي منصور في يوليو 2013 القوى الوطنية إلى مؤتمر حول «المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية»، طلبت الكلمة في بداية الجلسة وقلت إن لديَّ نقطة نظام، كيف يدعو جناح من الدولة (كنت أقصد الفريق أول السيسي) الشعب المصري للنزول يوم (الجمعة) المقبل لتفويض القوات المسلحة لمواجهة العنف والإرهاب، في حين يدعو جناح آخر اليوم للمصالحة؟ وقلت إن الحديث عن المصالحة لا يجدي في الظروف القائمة، واقترحت فض الاجتماع رسمياً، وإن كان من الممكن استمراره لمناقشة الوضع العام.

علق المستشار عدلي منصور قائلا إنه يتفق مع وجهة نظري تماماً، ولكنه يفضل أن يترك القرار للمجتمعين، فضل الحضور أن يواصلوا الكلام، كانت هذه هي المرة الأولى التي أقابل فيها رئيسنا المؤقت، فاجأني بانطلاقه في الحديث وسرعة بديهته، وكذلك بحزمه وسماحته في آن، تمنيت يومها أن تطول رئاسته سنة أخرى أو اثنتيْن.

درية والسبب الخفي

عندما قامت الشرطة بفض اعتصام رابعة، يومها اتصلت بوزيرة الإعلام أقترح عليها أن أقدم «تعليقا في برنامج قصير شبه يومي بلا مقابل في ضوء الظروف الحاسمة».

كان هذا نص رسالة SMS أرسلتها إليها عندما تعذر الاتصال بها، وانتظرت أياماً عدة بلا جدوى، فطلبت من المخرج عبدالرحمن حجازي، الذي كان مخرجاً تنفيذياً لبرنامجي «رئيس التحرير»، أن يذهب إلى مدير مكتب الوزيرة لإبلاغه أنني حاولت الاتصال بها فوجدت هاتفها مغلقاً، فأرسلت لها رسالة، أرجو أن تكون قد وصلتها، علل الرجل تعذر الاتصال بأن شاشة تليفون الوزيرة «بايظة»، وقال إنها لابد ستتصل بي في اليوم ذاته.

لم أسمع من الوزيرة في الأيام الخمسة التالية، وعندها تصادف أن اتصل بي الأستاذ جابر القرموطي في برنامجه «مانشيت» لأعلق على بعض الأحداث السياسية، فرويت له ما جرى مع الوزيرة دون أن أعلق بكلمة، فما كان من القرموطي إلا أن عَنَّفَ الوزيرة تعنيفاً قاسياً، زاد من حدته سخريته من التليفون وشاشته «البايظة».

في حديث للأستاذ محمد عبدالقدوس معها نشره في «أخبار اليوم»، قالت الوزيرة إن سبب زعلها مني هو أنني قلت كلاماً لا يجوز في حقها وأساء إلى شخصها في إحدى الفضائيات الخاصة.. سواء كان حل اللغز هو أن الوزيرة اتخذت قراراً متعلقاً بالعمل بسبب زعلها من أمر شخصي، أو أنه كان بسبب خشيتها مما يمكن أن أقول في البرنامج المقترح، أو بسبب تدخل من مدير مكتبها الذي كان مديراً لمكتب الوزير الأسبق أنس الفقي أو لأي سبب خافٍ آخر، فالمثير للأسف في النهاية أن صوتي لم يحجب فقط في ظل نظام مبارك، ولكن أيضا في عهد ما بعد 30 يونيو... ذلك هو الفصل الأخير الساخر... النهاية المثلى لدراما الفصول السابقة من هذا الكتاب!.. لكن.. كيف يكون الفصل الأخير، والستار لم يسدل بعد؟!

في عزاء خالد عبدالناصر

عندما ذهبت إلى عزاء الصديق خالد عبدالناصر، وعلى الرغم من حدة أسلوبي في انتقاد المجلس العسكري والحكومة، فإن اللواء إسماعيل عتمان مدير إدارة الشؤون المعنوية وعضو المجلس العسكري جاءني ليقول: «يا أستاذ حمدي، سيادة المشير عاوزك تطلع تقدم برنامج في التلفزيون، أنت تعلم كم يقدرك»، قلت إنني آسف لعدم تلبية دعوته للمرة الثانية، ولكنني لا أملك من أمري شيئاً لأنني تعاقدت أمس فقط مع قناة «التحرير»، وليس هناك من حل كما أعتقد إلا أن يتفق التلفزيون مع القناة على بث البرنامج في وقت واحد، فوعدني بأن يرى كيف يتم ذلك ويرد عليَّ في الصباح.

وعند خروجي من العزاء التقيت باللواء سمير فرج مدير الشؤون المعنوية الأسبق ومحافظ الأقصر عند قيام الثورة، وكنت قد قابلته في عشاء دعا إليه الدكتور الأسواني قبل اندلاع الثورة بأسابيع، وقلت له يومها: «نحن نثق بك، ونرجو منكم أنتم كبار الضباط أن تتخذوا الموقف الذي ترتضيه ضمائركم في اللحظة المناسبة»، ولم أضف إلى ذلك كلمة، واكتفى هو بالقول: «إن شاء الله، سنكون أهلاً لثقة الشعب».

غربان ماسبيرو

كانت الصحف في أعقاب ثورة 25 يناير تحمل لي كل يوم خبراً يفيد بأن هناك معارضة شديدة بين العاملين في ماسبيرو لتقديمي برنامجاً فيه؛ بدعوى أن الفرصة يجب أن تتاح لأبناء التلفزيون الذين لم يعتبروني واحداً منهم. ووصل الأمر بتشكيل سمى نفسه "ثوار ماسبيرو" حد الاعتصام احتجاجاً، بل وقدم "الثوار" بلاغاً إلى النائب العام ضد المذيعة هالة فهمي لأنها تجاسرت ونادت بالاستعانة بي.

لم يغضبني ذلك كله، ولكنني رثيت لحال هؤلاء الذين لم يعوا أنني كنت أصعد إلى مكتبي في ماسبيرو على السقالات في عام 1960، قبل أن يبدأ التلفزيون إرساله بشهور، ومع ذلك كنت أتفهم طموحات الشباب الذين يقدمون البرامج، بل كنت أقدر عدداً من الموهوبين منهم الذين بذلوا بعد الثورة جهداً أعلم أنه شاق، ليبثوا الحياة في التلفزيون الذي حنطه عهد مبارك.

أوقفت تقديم برنامج "صوت القاهرة"، إلا أنني لا أزال أذكر مقالاً للأستاذ عبدالرحمن فهمي، في جريدة "الجمهورية" قال فيه إن الثورة تأكل رجالها، وكذلك مقالاً للأستاذة منال لاشين في جريدة "الفجر"، شككت فيه في أهداف "ثوار ماسبيرو" وفي رغبتهم في الاستئثار بما يقال عن كعكة المال داخل المبنى المفلس، كما أذكر أيضاً نداء الشاعر جمال بخيت لي ألا أترك ماسبيرو للبوم والغربان وأعداء النجاح، وأذكر قبل ذلك وبعده مواقف العديد من الزملاء في ماسبيرو الذين تصدوا لأصحاب الأصوات الزاعقة.)