كان بودي اليوم أن أترك القراء في ضيافة منتخبات شعرية من ديوان «مهمل تستدلون عليه بظل» من شعر د.علاء عبدالهادي ليستمتعوا بتذوق قصائد منتقاة من تجربته الغنية المختلفة والمتنوعة شكلا ومضمونا، وهو من كبار شعراء مرحلة السبعينيات التي مازلت أرى أن تجربتهم هي الأثرى في التجارب الشعرية، وأفرزت قامات لأصوات شعرية مصرية هي الأقوى في العالم العربي اليوم لنضج تجربتها، بالفعل قراءتهم تحمل متعة أدبية وفنية وفكرية وروحية، ومن أحب هذه الأصوات بدون ترتيب الأسماء، هم في منزلة واحدة، د. علاء عبدالهادي، د. أمجد الريان، وفريد أبوسعدة، جمال القصاص، عبدالمنعم رمضان، والمرحوم حلمي سالم، فكل من هؤلاء له تجربته وخصوصيته وكلهم يندرجون تحت مظلة الحداثة الشعرية التي اشتغل عليها كل واحد منهم على طريقته والأسلوب الخاص به.

Ad

 ديوان «مهمل تستدلون عليه بظل» يمنح القارئ إحساسا أقوى من أن يدركه أو «يحاوطه» أو يلم به بالمعنى التقليدي، فأي محاولة لفهمه وتفسيره كي تمتلكه إلى الأبد، وتضمه في خانة الواضح والمفهوم التي جرى عليها الدهر هي عملية فاشلة، هنا شعر يحيل القارئ إلى فضاءات مفتوحة على معنى غير مقبوض عليه، ولا يمكن أصلا القبض عليه، فهو هارب في غموضه الساحر، ومتحرر من قبضة الوضوح المبتذل المعتاد عليه، المعنى هنا بانورامي مثل هذا الكون يتسع لكل نبضات الحياة وما وراءها.

هذا الديوان ضم أشكالا من جميع المدارس الشعرية وقطف من كل حقولها وأخضعها لحقل من التجارب على الشكل والمضمون ومارس عليها العابا بما يخطر وبما لا يخطر على البال.

شعر وقاد أتى من جمر العقل ووهج الروح، لذا بات يعلق ويرسب في قاع وجدان متلقيه، ففيه تشكيل مدهش للصورة ولحركة من يقطن فيها ومن جيشان مشاعر متلاطمة في معانيها، عالم يتموج في طوفان أحداثه ومشاعره، كلها مرصودة من عين كاميرا مخرج ورسام يعيد تقطيع حياتها ويركبها في مونتاج بحسب وجهة نظر جديدة وبث مغزى فلسفي مبطن من إعادة خلقها، فعلاء

عبدالهادي حاصل على دكتوراه في الفلسفة والنقد الأدبي تخصص أدب مقارن قسم الدراما والمسرح مما مكنه تماما من فهم ما يقوم به من ألعاب فنية أخضعها لقوانين إدراك وعيه الذي قام بتنسيقها وتشذيبها وتهذيبها بحسب رؤيته وأهدافه منها، لذا جاءت موسومة برسائلها الفلسفية ورؤاها التأملية لهذا الكون ومن فيه.

الديوان عميق وثري جدا لا تسعه مقالة صغيرة في صفحة، وكنت أتمنى أن أضع مختارات كثيرة منه، لكن لا مجال يتسع لها، وهذه بعض مقتطفات منه:

1 - هي الظل/ والدهشة الهائلة التي/ سوف تغلي أحلامها/ في عيون الصقور!/ وترشف قهوتها المرمرية/ من هفهفات الحجر/ ثم تسبي القدر/ هي الظل- شبت لأطرافها أعين العاشقين/ فهل تخبو في يدي الحروف؟

2 - يطل ويرسو/ على الماء أحدا ويحنو،/ كما كان دوما على الأرض،/ يفتح زنديها للسحاب/ لطمي لما يلتئم،/ لظل سيحبو/ إلى أصله في الغياب!/

3 - هذي البحيرة الواهنة/ غامضة... حيرته،/ فذهب إلى الحاسوب... ملتاعا،/ ونسخ لها شجرة... وريحا،/ نسخ لها عشبا ضاحكا،/ ودلوا/ رتب بين جنبيه عطشا!/ نسخ لها ذاتا في لحظة العشق.

4 - وهل يبصق الطمي مائي،/ وفي حضن عيني نص ونيل؟

5 - قلت لولدي،/ كيف تلائم بين الكلام ووقع الخطى؟/ وهل ملت يوما لموت؟/ وهل «احتفظت» لكل قتيل بظل؟

6 - أنا الظل/ كم أجلتني السنون،/ ولما تعبت من الجثة المنزلية/ من رجع سيرتها في رخام القصور/ سألت:/ وهل كل من يختفي من وراء الستائر ليل؟/ لم عند كل ارتفاع جديد/ يخاتلني نص؟

7 - على حائط كامل في غرفة نومها لوحة «بوستر» لحديقة ملأها الزهر، كنت أسقي الحديقة بنفسي، وألم ما سقط من ورق الأشجار اليابس فوق السرير، بل كنت أقطف من اللوحة قبل أن تنام قرنفلة بيضاء، لكن العصافير التي لبست أشجارها توقظنا، تفقدني متعتي، فدسست مسمارا في منتصف اللوحة تماما، علقت عليه بندقية صيد، من يومها اختفت العصافير.