في عام 2012، اعتُبر جون كيري، بفكّه العريض ومصافحته القوية، "التجسيد الحي للولايات المتحدة" كونه يستطيع نقل الجاذبية الرئاسية إلى وزارة الخارجية، على عكس هيلاري كلينتون التي نجحت بطريقتها الخاصة كناشطة إنسانية عالمية ورافعة راية القيم الأميركية، يقوم كيري بإنجاز المهام عملياً. قبل أن يستلم كيري منصبه، أعلن المعلّق جيمس تروب: "هذا الرجل يتصرف مثل وزير خارجية حقيقي أكثر من أي شخص آخر منذ جورج مارشال".

Ad

نجح مارشال في إعادة تقوية أوروبا بعد حقبة الحرب في عام 1948 بفضل برنامج من المساعدات السخية، وهو لا يزال يُعرف حتى الآن بـ"خطة مارشال". يحاول كيري من جهته مداواة الشرق الأوسط بفضل جهود ثلاثية: إنهاء النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، والتوصل إلى تسوية سياسية في سورية، وعقد اتفاق نووي مع إيران.

لكن بعد أن واجهت تلك الأجندة المتعِبة مشاكل جدية، بات هذا الرياضي السابق يُعتبر الآن فاشلاً في واشنطن. وفق آرون ديفيد ميلر، مسؤول سابق في وزارة الخارجية، يبدو كيري "رجلاً وحيداً"، وهو على الأرجح الشخص الوحيد الذي لا يزال مقتنعاً باحتمال تلبية المطالب الإسرائيلية والفلسطينية من خلال حل الدولتين.

اختار موقع صحيفة "نيويورك تايمز" صورة يظهر فيها كيري في وضع متألم، وهو يضع يده على جبينه، خلال جلسة استجواب قاسية يوم الثلاثاء من لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي. في خضم جلسة صعبة على نحو غير مألوف، قام الجمهوري جون ماكين، الذي خسر الانتخابات الرئاسية في عام 2008 أمام باراك أوباما، بمهاجمة كيري معتبراً أنه يواجه الهزيمة في الجهود الثلاثية التي يبذلها في الشرق الأوسط. اعتبر ماكين أن المحادثات الفلسطينية "انهارت".

ردّ كيري بموقف شجاع وغير متوقع، معتبرا أن الفريق الآخر هو المسؤول عن الأزمة الحاصلة في المفاوضات، صحيح أن الطرفين كانا مذنبين بسبب خطواتهما العقيمة، لكن كانت إسرائيل هي التي سرّعت الوصول إلى طريق مسدود. فشلت حكومة بنيامين نتنياهو في الالتزام بالمهلة النهائية لإطلاق سراح 26 معتقلاً فلسطينياً، ثم قرر وزير الإسكان الإسرائيلي، أوري أرييل، الإعلان عن بناء 700 وحدة سكنية جديدة في مستوطنة جيلو المبنية على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية بعد إلحاقها بالقدس.

قال كيري: "كانت تلك اللحظة حاسمة". رداً على التحركات الإسرائيلية، قام الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتجديد مطالبه بإقامة دولة فلسطينية عبر تقديم طلب للانضمام إلى 15 معاهدة واتفاقية دولية.

هذه الأزمة ليست مفاجئة بأي شكل. ما من حكومة إسرائيلية مرتقبة يمكن أن توافق بكل سرور على الشروط المقبولة من الفلسطينيين، ونظراً إلى الانقسام الفلسطيني، لا يبدو عباس قوياً بما يكفي كي يوافق على التنازلات التي يتقبّلها نتنياهو.

يتعارض لوم كيري لإسرائيل بشكل مباشر مع موقف الرئيس بيل كلينتون الذي قام بتوجيه أصابع الاتهام إلى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات غداة فشل مفاوضات السلام في كامب ديفيد في عام 2000. لا بد من الرجوع إلى عام 1990 كي نجد الإدارة الأميركية التي كانت مستعدة لمعاقبة الحكومة الإسرائيلية إذا رفضت الحضور إلى طاولة المفاوضات. امتنعت واشنطن عن تقديم ضمانات للقروض بقيمة 10 مليارات دولار كان رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين يحتاج إليها حينها لبناء منازل للوافدين الجدد.

لم تعد العقوبات المالية الأميركية واردة اليوم. أصبحت إسرائيل بلداً أكثر ثراءً بكثير. لكن جاءت أحداث الأسبوع الماضي لتغيّر الحسابات المتعلقة بالمفاوضات. لم يعد النجاح أو الفشل على المحك، بل هوية الجهة التي تتحمل اللوم على الانهيار المرتقب.

أوضح الاتحاد الأوروبي أن انهيار المحادثات بسبب بناء المستوطنات اليهودية سيؤدي إلى عقوبات تجارية. يستحوذ الاتحاد الأوروبي على ثلث تبادلات إسرائيل التجارية، وتبدو الدول الأوروبية مستعدة لمنع بيع منتجات المستوطنات.

في واشنطن، بدأت لعبة تبادل اللوم تحتدم، يمكن الاتكال على الكونغرس لدعم نتنياهو مهما فعل، لكن تحاول أصوات أخرى دفع كيري إلى توجيه انتقادات صريحة لإسرائيل. على موقع "بوليتيكو" (Politico)، دعا تعليق كتبته ست شخصيات لامعة في واشنطن (منهم مستشار الأمن القومي السابق زبيغنيو بريجنسكي) كيري إلى التحدث والتصرف بحزم أكبر مع إسرائيل. لم يكن النجاح يتوقف على النوايا الحسنة لدى الأطراف المختلفة بل على "قوة الضغط السياسي الأميركي ومدى التصميم على استعماله".

يجب أن تتوقف واشنطن عن وصف بناء المستوطنات بالخطوة "غير المفيدة" (ما يعطي انطباعاً بأنها توافق عليها)، وأن تصر على تعليق المفاوضات إلى أن توقف إسرائيل عمليات البناء في الأرض المحتلة. لا بد من معارضة محاولات نتنياهو إلحاق المزيد من الأراضي الفلسطينية بقوة توازي قوة فلاديمير بوتين في الاستيلاء على شبه جزيرة القرم.

لن يرتعب نتنياهو من كلمات بعض المسؤولين المتقاعدين، باستثناء الأحزاب السياسية المتحمسة، لن تُسَرّ إسرائيل بأي عزلة إضافية. ستصبح الحياة أسهل على الحكومة الإسرائيلية إذا بقيت محادثات السلام حية، حتى لو كان كل طرف مقتنعاً بأنها لن تحقق أي نتيجة.

سيوافق الدبلوماسيون في القوى العالمية الكبرى على ذلك النهج. إذا تبين أن حل الدولتين مستحيل، فلن يبقى أمامنا إلا خيار إقامة دولة واحدة تتألف من الإسرائيليين والفلسطينيين، لكن لا أحد يملك خارطة طريق واضحة لتطبيق هذا المفهوم، ستكون متابعة المحادثات الإسرائيلية الفلسطينية بشأن حل الدولتين أشبه بمهدئ قصير الأمد.

لا يمكن لوم كيري لأنه يركز على المسائل الشائكة في الشرق الأوسط. إنها فرصته الأخيرة لإثبات عظمته لأنه، على عكس هيلاري كلينتون، لا يحتفظ بأفضل مهاراته ليحاول الوصول إلى الرئاسة. قد تكون مقاربته التكتيكية مشبوهة (ربما كان يجب أن يتصرف بصرامة أكبر مع الإسرائيليين منذ البداية)، كما أن التوقيت ليس مناسباً بأي شكل بما أن الدول العربية الكبرى منشغلة بشؤونها الداخلية وبما أن الخصومات الإقليمية بدأت تطغى على القضية الفسلطينية.

في النهاية، تكمن مشكلة كيري في واقع أنه يعمل في ظل تراجع نفوذ الولايات المتحدة وضمن إدارة تمتنع عن استعمال القوة في الخارج، وقد اتضح ذلك في طريقة تعاملها مع الحرب الأهلية السورية. إذا كان كيري هو التجسيد الحي للولايات المتحدة، فلا شك أن قوة هذا البلد على الساحة العالمية تراجعت كثيراً منذ أيام جورج مارشال.

* الان فيليبس | Alan Philps