كلما كبرنا استحينا أكثر
للمرة الأولى منذ زمن طويل لا أتذكر عدد سنواته بالضبط، لم أذهب إلى معرض الكتاب في الكويت الذي اعتدت زيارته كل عام، وكان شعوري كأنني أخون حبيبي في تخلفي عن موعده، قراري هذا جاء غصباً عن مشاعري التي كانت تهفو صوب أروقة أجنحة المعرض وحول إغواءات كتبه الجديدة، لكني تمكنت من السيطرة على عواطفي وقمعت رغبتي في شراء المزيد من الكتب التي لم يعد لها أي مكان في بيتي فقد ابتلعت كل المساحات المخصصة لها، وتجاوزتها لتبتلع مساحات أخرى مخصصة لغيرها، بل إنها حطت على كل ما يتمثل لها بسطح بما فيها المسطحات الأرضية حيث احتلت السجاد والموكيت، وباتت قراءتها محتاجة إلى زمن وعمر آخر فوق عمري وزمني، لذا اتخذت قرارا وفرمانا صارما بعدم الذهاب لمعرض الكتاب هذا العام حتى أنتهي من قراءة ما لدي من كتب ثم إعادة ترتيب المكتبات والتخلص من بعضها الذي لا أريده.قراري جاء متلائما مع حال معرض هذا العام الذي بلغ الذروة في الازدحامات الخانقة، التي كانت بسبب التوسعات الكبيرة القائمة في أرض المعارض، واستولت على أغلب مساحة المواقف والساحات لبناء مواقف الطوابق المتعددة، وحفر قنوات لتسيير قطارات نقل الركاب لتوصيلهم الى صالات المعارض المختلفة، كل هذه الحفريات لأشغال «قائمة قاعدة» أربكت المواصلات وعطلت السير والدخول إلى المعرض، مما حبسني في السيارة ساعة وربع حتى تمكنت من الاقتراب من قاعة 5 وبالتالي نزلت من السيارة ليصفها السائق بجهد جهيد وأكملت طريقي بالمشي حتى قاعة 7 التي تقام فيها أمسية شعرية يشارك فيها أصدقاء لي.
في المعرض تذكرت حينما عُرض أول كتاب لي فيه وكنت وقتها غارقة في أحاسيسي المختلفة، منها القلق ومنها الزهو والحصة الكبرى كانت للخجل، كنت شاعرة كأني معراة من كل دفاعاتي ومن ستائر غموضي التي انكشفت وبانت مشاعري عرضة للعامة والطريق، بالرغم أن كتاباتي لم تُنشر إلا من بعد مرور 10 سنوات من كتابتها، فقد بدأت الكتابة عام 1984 وبدأت النشر في عام 1995 بعد ما أصبح عندي مادة مختلفة تكفي 5 مؤلفات بقيت في الأدراج ولم أجرؤ على طباعتها بالرغم من نشر معظمها في الصحف الخليجية والعربية، لكني خفت من طباعتها لإحساسي العظيم بقيمة الكتابة وسمو أهميتها، خاصة كلما قارنت ما كتبته بمستوى كتاب عظماء أعشقهم مثل كافكا وبروست وليم فولكنر وجويس وقائمة كتاب كبار عرب وأجانب لا تتسع المقالة لذكرهم، أجدني أزداد خوفا وانطواء من تقديري لقدسية الكتابة، وأتذكر في إحدى الاجتماعات سألني الزميل طالب الرفاعي عن سبب تأخري في النشر؟وأجبته لأني خائفة من النشر إلا إذا تأكدت من قيمة ما أكتبه، ولن أنشر إلا بعد أن أطلع المبدع الكبير إدوار الخراط عليها، وقال طالب أنت لست بحاجة الى حكمه، وان حكم بعدم صلاحيتها فماذا تفعلين؟ قلت أحرقها كلها وأبدأ من جديد.لكن الكبير ادوارد الخراط أعجبته كتاباتي وفاجأني بما كتبه عنها، وقال لي أنت لست في حاجة الى تقييمي، وبعد ذلك أصبح يشرفني بقراءة نصوص له حتى قبل نشرها ويقول بروحه الحلوة خديها شرحيها بالنقد، ما أجمل بساطته وروعة تواضعه التي تشعرني بعظمة الكاتب ونبل الكتابة.اليوم بت أشعر بالخجل والخوف أكثر من قبل وأعمل ألف حساب للكتابة وأعرف ما أهميتها ومستواها وقيمتها الإنسانية، وحتى ما كتبته بت أخشى أن أعيد قراءته حتى لا أعتزل الكتابة.اليوم بات الشباب في الكويت يدفعون بكل ما يكتبونه من خواطر أو يوميات وما يلفقونه من سرقات الإنترنت السهلة التي لا تخضع لأي رقيب في الوطن العربي، وينشرونها بكل فخر في كتب ضعيفة المحتوى والمضمون وفاقدة للقيمة الفنية والجمالية والأدبية وهم لا يشعرون بأدنى خوف أو خجل، بل يفخرون بكتاباتهم وبذواتهم المتورمة بإنجازاتهم الوهمية التي لا أدري من أي منبع تأتيهم؟ هل لعدم علاقتهم بالقراءة، وبالتالي ليس لديهم كبير أو مستوى لنماذج يطمحون للوصول إليها؟ أو أن الزمن من سرعته لم يعد له طموح بالقامات الكبيرة، وسرعة جريانه لم تعد تجرف إلا الخفيف المارق على عجل؟