سميح وداعاً

نشر في 25-08-2014
آخر تحديث 25-08-2014 | 00:01
 ناصر الظفيري تقدموا.. تقدموا/ كل سماء فوقكم جهنم/ وكل أرض تحتكم جهنم/ تقدموا../ يموت منا الشيخ والطفل/ ولا يستسلم/ وتسقط الأم على أبنائها القتلى/ ولا تستسلم../ تقدموا../ بناقلات جندكم../ وراجمات حقدكم/ وهددوا../وشردوا../ ويتموا../ وهدموا../ لن تكسروا أعماقنا/ لن تهزموا أشواقنا/ نحن قضاء مبرم.

ذات صيف عاد الزميل محمد الربيعان من لندن مصطحباً لي معه ديوان شعر وكاسيت أمسية شعرية وحكاية، وجميع هذه الأشياء لها علاقة بشاعر واحد التقاه في لندن هو سميح القاسم. طلب منه أن يوقع لي ديوان "لا أستأذن أحدا" لأني أحد المعجبين بشعره والحقيقة أنني كنت مؤمنا بانتمائه السياسي داخل اسرائيل، أما شعرا فكنت أفضل راشد حسين ومحمود درويش. وكان سميح نفسه يعترف بشعرية درويش أما راشد حسين فأغتيل في الأربعين من عمره حين أحرقت شقته في نيويورك.

أما الكاسيت فكان تسجيلا لأمسية سميح القاسم في لندن، وأما الحكاية فكانت غريبة لا أعلم لماذا تقبلها الشاعر سميح القاسم وهو لم يكن بحاجة لها. في صباح اليوم الذي سيقيم فيه الأمسية زار سميح القاسم ومحمود درويش منزل الراحل ناجي العلي ولأن الشرطة البريطانية تراقب المنزل استوقف عنصران من المباحث الشاعرين لسؤالهما عن هويتهما، وحين تعرفا اليهما وقدمتهما أرملة ناجي العلي الى عناصر المباحث انتهى المشهد في لحظته. في المساء خرج مقدم الأمسية الشعرية، وهو يصرخ بطريقة مفتعلة ومازلت أذكر كلماته "أيها الحضور ابقوا في أماكنكم فقد تم اعتقال سميح القاسم" ثم يكمل بطريقة دراماتيكية "ولكن تم الافراج عنه" ودخل سميح القاسم القاعة ليستعير جملة الفنان عادل امام الشهيرة "متعودة دايما" ليذكر الحضور بتكرار حوادث الاعتقال في حياته.

أذكر هذه الحادثة لأن الأخوة الأدباء هاجموا سميح القاسم لمديحه حافظ الأسد الذي هاجمه أولا ثم استضافه الأخير ليكتب عنه مرثية مشيدا بنجله الذي سيكون خيرا لسورية والأمة العربية. وسميح القاسم ليس الشاعر الوحيد الذي عاش هفوات صغيرة هنا وكبيرة هنا، ولا نستطيع أن نمسح تاريخه النضالي، خصوصا في الفترة التي انتمى فيها للحزب الشيوعي الاسرائيلي في محاولة لكسب تعاطف اليهود ضد الصهيونية. وربما كانت تلك أفضل فترات حياته قبل أن يستقل ويفقد بوصلته.

ولكي لا نحاكم الراحل سلوكا يبقى سميح القاسم، اضافة الى درويش وراشد حسين أحد أضلاع مثلث الشعر المقاوم الحديث في الأرض المحتلة، عاشت قصائده في أذهان الناس يستمدون منها صمودهم وبقاءهم متمسكين بأرضهم ومؤمنين بقدرهم على هذه الأرض التى شربت دماء أجيال وأجيال منذ ستين عاما حتى الآن.

ليس لنا أن نبرر أخطاء شاعر سياسي، لكننا نقرأ تجربته لنرى أن جميع الذين امتهنوا الشعر والسياسة سقطوا سياسيا وان ابدعوا شعرا.

وارتباطنا بهم وبأشعارهم لا يعني موافقتنا على طريقهم السياسي، وسلوكهم تجاه أصحاب السلطة والنفوذ، وكأن المنبر الشعري والأدبي لا سبيل اليه الا بمفتاح السلطة السحري. على الجيل الشاب الذي يرى في سلوك الكبار في مديح السلطة والبحث عن فتاتها مبررا له في اقتفاء أثرهم أن يعرف أن التاريخ لا يرحم، فقد نغفر للأديب والشاعر سلوكا ما تحت وطأة تعلقنا بأدبه، لكن لا نترفع عن ادانته خارج هذا الشعر والأدب.

نعم خسرنا سميح القاسم الشاعر وخسرنا أغانيه للمقاومة وسقط مثلث الشعر المقاوم الذي ارتبطت فيه منذ شبابي، وليس من السهل تعويضه ولكن الأمل في هذه الأم الفلسطينية باق لا يعرف اليأس.

back to top