إصلاح التوازن بين الدولة والسوق في الصين

نشر في 06-04-2014
آخر تحديث 06-04-2014 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت لم يسبق لأي بلد في التاريخ المسجل أن نجح في تحقيق مثل هذا النمو السريع- وانتشال عدد هائل من الناس من براثن الفقر- كما فعلت الصين على مدى السنوات الثلاثين الماضية، وكان استعداد زعماء الصين لمراجعة النموذج الاقتصادي للبلاد كلما اقتضت الضرورة والحاجة، رغم المعارضة من أصحاب المصالح الخاصة القوية، من السمات المميزة لنجاح الصين، والآن، مع تنفيذ الصين سلسلة أخرى من الإصلاحات الجوهرية، بدأت هذه المصالح القوية تصطف بالفعل في مقاومتها. تُرى هل تكون الغَلَبة للإصلاحيين مرة أخرى؟

في الإجابة عن هذا السؤال، تتخلص النقطة الحاسمة التي يتعين علينا وضعها في الاعتبار في أن الجولة الحالية من الإصلاحات، كما حدث في الماضي، لن تكتفي بإعادة هيكلة الاقتصاد فحسب، بل أيضاً المصالح الخاصة القوية التي ستشكل إصلاحات المستقبل (بل تحدد ما إذا كانت ممكنة). واليوم، في حين تحظى المبادرات الرفيعة المستوى- على سبيل المثال حملة مكافحة الفساد الحكومية الموسعة- بقدر كبير من الاهتمام فإن القضية الأعمق التي تواجهها الصين تتعلق بالأدوار المناسبة للدولة والسوق.

عندما بدأت الصين إصلاحاتها قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، كان الاتجاه واضحا: فالسوق كانت في احتياج إلى الاضطلاع بدور أكبر كثيراً في تخصيص الموارد. وهذا ما كان، حيث أصبح القطاع الخاص الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى. وعلاوة على ذلك، هناك إجماع واسع النطاق على أن السوق تحتاج إلى الاضطلاع بما يعتبره المسؤولون "دوراً حاسما" في العديد من القطاعات حيث الهيمنة للشركات المملوكة للدولة. ولكن ما الدور الذي ينبغي لها أن تلعبه في قطاعات أخرى، وفي الاقتصاد بشكل أكثر عموما؟

إن الكثير من مشاكل الصين اليوم تنبع من زيادة هيمنة السوق وتضاؤل دور الحكومة، أو بعبارة أخرى، في حين تقوم الحكومة بمهام من الواضح أنها لا ينبغي لها أن تقوم بها، فإنها أيضاً لا تقوم ببعض الأشياء التي ينبغي لها أن تقوم بها.

فالتلوث البيئي المتفاقم على سبيل المثال، يهدد مستويات المعيشة، في حين أصبح التفاوت بين الناس في الدخول والثروات في الصين الآن ينافس نظيره في الولايات المتحدة، وينتشر الفساد في المؤسسات العامة والقطاع الخاص على حد سواء. وكل هذا يعمل على تقويض الثقة داخل المجتمع وفي الحكومة، وهو الاتجاه الذي بات واضحاً بشكل خاص في ما يتصل بسلامة الغذاء على سبيل المثال.

وقد تتفاقم هذه المشاكل سوءاً مع بدء الصين في إعادة هيكلة اقتصادها بعيداً عن النمو القائم على التصدير ونحو الخدمات والاستهلاك المنزلي. ومن الواضح أن هناك مجالاً للنمو في الاستهلاك الخاص؛ لكن تبني أسلوب الحياة الأميركي المادي المسرف سوف يكون بمثابة الكارثة بالنسبة إلى الصين وكوكب الأرض. فنوعية الهواء في الصين تعرض حياة الناس للخطر بالفعل؛ والانحباس الحراري العالمي الناجم عن زيادة الانبعاثات الكربونية الصينية من شأنه أن يهدد العالم بأسره.

ولكن هناك استراتيجية أفضل، فبادئ ذي بدء، سوف ترتفع مستويات المعيشة في الصين إذا تم تخصيص المزيد من الموارد لمعالجة أوجه القصور الكبيرة في مجال الرعاية الصحية والتعليم، وهنا يتعين على الحكومة أن تلعب دوراً قياديا، وهي تلعب هذا الدور في أغلب اقتصادات السوق ولسبب وجيه.

إن نظام الرعاية الصحية القائم على القطاع الخاص في أميركا مكلف وغير فعّال ويحقق نتائج أسوأ كثيراً من مثيلاتها في البلدان الأوروبية، التي تنفق أقل كثيرا، والنظام الأكثر استناداً إلى السوق ليس الاتجاه الذي يتعين على الصين أن تسلكه، ففي السنوات الأخيرة، حققت الحكومة خطوات مهمة في توفير الرعاية الصحية الأساسية، خاصة في المناطق الريفية، حتى إن البعض شبهوا نهج الصين بذلك المتبع في المملكة المتحدة، حيث يتم تقديم الخدمات الخاصة استناداً إلى قاعدة عامة. وقد نناقش ما إذا كان هذا النموذج أفضل من هيمنة الحكومة على تقديم الخدمة على غرار الطريقة الفرنسية على سبيل المثال. ولكن إذا تبنت أي دولة نموذج المملكة المتحدة، فإن مستوى القاعدة يحدث فارقاً كبيرا؛ ونظراً للدور الصغير نسبياً الذي يلعبه القطاع الخاص في توفير الرعاية الصحية في المملكة المتحدة فإن البلاد لديها نظام قائم على القطاع العام في الأساس.

على نحو مماثل، ورغم أن الصين أحرزت بالفعل تقدماً في الابتعاد عن التصنيع نحو اقتصاد قائم على الخدمات (تجاوزت حصة الناتج المحلي الإجمالي من الخدمات حصة التصنيع لأول مرة في عام 2013)، فإن الطريق لا يزال طويلا. فالعديد من الصناعات تعاني القدرة الزائدة بالفعل، ولن تكون عملية إعادة الهيكلة فعّالة وسلسة من دون مساعدة من الحكومة.

وتعيد الصين الهيكلة بطريقة أخرى: التوسع الحضري السريع. سوف يتطلب ضمان ملاءمة المدن للعيش واستدامتها البيئية تدابير حكومية قوية لتوفير ما يكفي من النقل العام والمدارس العامة والمستشفيات العامة والمتنزهات وتقسيم المناطق على نحو فعّال، بين منافع عامة أخرى.

ويتلخص أحد الدروس الرئيسة التي كان من الواجب علينا أن نتعلمه من فترة ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008 في أن الأسواق ليست ذاتية التنظيم، فهي عُرضة لتكوين فقاعات الأصول والائتمان التي من المحتم أن تنهار- وغالباً عندما تعكس تدفقات رأس المال عبر الحدود اتجاهها- وتفرض تكاليف اجتماعية هائلة.

كان افتتان أميركا بإلغاء القيود التنظيمية السبب وراء الأزمة. والقضية لا تقتصر على تنظيم وترتيب عملية التحرر من القيود، كما يقترح البعض؛ والنتيجة النهائية مهمة أيضا. فقد أدى تحرير أسعار الفائدة على الودائع إلى اندلاع أزمة المدخرات والقروض في أميركا في ثمانينيات القرن العشري، كما كان تحرير أسعار الفائدة على القروض سبباً في تشجيع السلوكيات الضارية التي استغلت المستهلكين الفقراء، ولم يسفر إلغاء القيود التنظيمية المفروضة على البنوك إلى المزيد من النمو، بل المزيد من المخاطر ببساطة.

لن تتبع الصين، كما نرجو، المسار الذي سلكته أميركا والذي أدى إلى عواقب مأساوية، والتحدي الماثل أمام قادتها الآن يتلخص في ابتكار أجهزة تنظيمية مناسبة للمرحلة التي تمر بها من التطور.

سوف يتطلب هذا أن تعمل الحكومة على جمع المزيد من المال، ومن الواضح أن اعتماد الحكومات المحلية حالياً على مبيعات الأراضي مصدر للكثير من التشوهات التي يعانيها الاقتصاد، والكثير من الفساد. وينبغي للسلطات بدلاً من هذا أن تعزز العائدات من خلال فرض ضرائب بيئية (بما في ذلك ضريبة الكربون)، وضريبة دخل تصاعدية أكثر شمولا (بما في ذلك مكاسب رأس المال)، وضريبة على الأملاك. وعلاوة على هذا، ينبغي للدولة أن تخصص، من خلال أرباح الأسهم، حصة أكبر من قيمة الشركات المملوكة للدولة (والتي قد يكون بعضها على حساب مديري هذه الشركات).

والسؤال الآن هو ما إذا كانت الصين قادرة على الحفاظ على النمو السريع (وإن كان أبطأ بعض الشيء مقارنة بالوتيرة الأخيرة المبهرة)، في نفس الوقت الذي تسعى فيه إلى كبح جماح توسع الائتمان (والذي قد يتسبب في انعكاس مفاجئ لأسعار الأصول)، وتتصدى للطلب العالمي الضعيف، وتعيد هيكلة اقتصادها، وتكافح الفساد، الواقع أن مثل هذه التحديات المرهقة أدت إلى الشلل، وليس التقدم، في بلدان أخرى.

إن اقتصادات النجاح واضحة: فزيادة الإنفاق على التوسع الحضري والرعاية الصحية والتعليم، بتمويل من الزيادات الضريبية، من الممكن أن تعمل في نفس الوقت على تعزيز النمو وتحسين البيئة والحد من التفاوت وعدم المساواة، وإذا تمكنت سياسة الصين من إدارة عملية تنفيذ هذه الأجندة فإن هذا من شأنه أن يجعل الصين، والعالم بأسره، في حال أفضل كثيرا.

* جوزيف ستيغليتز | Joseph Stiglitz ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت وأحدث مؤلفاته كتاب "ثمن التفاوت: كيف يعرض المجتمع المنقسم اليوم مستقبلنا للخطر".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top