مصر دولة «المُستبِد العادل»

نشر في 05-11-2013 | 00:02
آخر تحديث 05-11-2013 | 00:02
No Image Caption
اليساري صلاح عيسى منتشلاً دستور {الباشاوات} من صندوق القمامة

{ألا تستطيع الديمقراطية أن تُغدق ثمارها على الفقراء والكادحين؟}، بهذا السؤال الصارخ، افتتح الرئيس الأسبق للمحكمة {الدستورية العليا} المستشار عوض المر مقدمته القصيرة لكتاب {دستور في صندوق القمامة}، كأنَّه يرشدنا، من قبره، إلى السكين الذي يلتف دائماً وأبداً، حول رقاب المصريين.
يصدر كتاب {دستور في صندوق القمامة} وسط ساحة جدل دستوري، يُراق على جوانبها الدم، منذ نحو ثلاثة أعوام، تخللتها إعلانات دستورية لا تنفع، ولجان تأسيسية لا تشفع، واستفتاء على دستور 2012 {المعطل}، ما يؤكد أن تاريخنا القريب يشهد بفشل مسارات {الديمقراطية} في مصر، خلال النصف الثاني من القرن العشرين على الأقل، ويشهد بأن رابطة صُنَّاع الطغاة، هي الأكثر فاعلية في الحياة السياسية في مصر.

خلاصة ما يصل إليه الكاتب، هو أن تاريخ هذه {الديمقراطية} لا يُبشِّر بأي خير، كما أن تتبع مساراتها منذ الخمسينيات وحتى اليوم، لا يعني سوى أن كل الصيغ التي حكمت هذا البلد، هي تقريباً صيغ للتحايل على أحلام الجماهير، والتلاعب بحقوقهم وإهدارها، كلما عنَّ للسلطة ذلك، بغض النظر عن كون طريقة الحكم السائدة {ملكية} أم {جمهورية}، وبغض الطرف عن شخص الحاكم، سواء كان محض حالم بالعدل، مثل جمال عبدالناصر، أو مجرد ملك جاء في غير أوانه، حريص على تأبيد حكمه وتوريثه، مثل حسني مبارك.

يبدو الكاتب (أصدر الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام 2001) منحازاً بوضوح إلى انتقاد النظام الناصري وتشريحه وتحميله مسؤولية انتشار نزعة {البطريركية الثورية} في دماء السلطة المصرية، وهي، برأيه، النزعة التي تصنع دائماً نموذج {المُستبد العادل}، التي هيمنت خلال عهد عبدالناصر وتفاقمت خلال عهد السادات وحكمت مصر نحو 60 عاماً.

 يوفر الكاتب نقده للنظام الناصري، ولا يفيض شيئاً لنظام حسني مبارك، رغم أن الأخير لم يكن من المصلحين، بل على العكس، كانت أخطاؤه {الدستورية} بالذات وراء انفجار ثورة {25 يناير} في وجه نظامه المتداعي، وأُجبر على {قرار} التنحي يوم 11 فبراير 2011، وهو القرار الذي كان، في حد ذاته، فضيحة دستورية {كبرى}.

ثمة مفارقات مُدهشة يعنيها صدور طبعة {شعبية} جديدة من كتاب {دستور في صندوق القمامة}، وسط كل هذا اللُجاج الدستوري المحموم، ليس أهمها أن كاتبه هو ذاته رئيس تحرير جريدة {القاهرة}، التي تصدرها وزارة الثقافة المصرية، منذ نحو عقد، ولا لأنه كان أحد رموز الثقافة، في عهد الرئيس الأسبق مبارك، ووقف مشدوداً إلى جواره، في تلك الصورة الشهيرة، للقاء الرئيس مع مثقفين، في قصر الرئاسة، قبيل {ثورة 25 يناير} بثلاثة أشهر، وتحديداً 30 سبتمبر 2010.

مفارقات

المفارقة الأولى حقاً أنَّ الكاتب (عضو المجلس الأعلى للصحافة الحالي) المعروف بميوله اليسارية، لم يجد أفضل من دستور 1954، الذي كتبه باشاوات {الإقطاع} ليكيدوا به ضباط يوليو، وعُرف باسم {دستور الباشاوات} ليعبّر به عن أقصى أحلام المصريين الدستوريَّة، وحتى لو كان ذلك صحيحاً، قبل قيام ثورة 25 يناير 2011، واحتوت مواده على أفضل صياغات القرن العشرين للدفاع عن حريات المصريين، فإنه بلا شك لم يعد صالحاً تماماً الآن، بعد نحو ستين عاماً من وضعه، تبدَّلت خلالها خارطة العالم العربي، وتغيَّرت أوضاع العباد في مصر، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

المفارقة الثانية، أن الكاتب أعدَّ الطبعة الجديدة، من الكتاب، صبيحة يوم 25 يناير 2011، وهو، بالمصادفة، اليوم الذي خرجت فيه الجماهير المصرية، تبحث عن حريتها، بينما يجلس الكاتب اليساري المرموق، في مكتبه ويُجادل، حول ما إذا كان من المُمكن أن يُصلِح نظام مبارك نفسَه من الداخل، خِشية أن يؤدي خروج الجماهير غير المنظم إلى فوضى، أم لا؟

والمدهش أن الجماهير، تلك التي يتشدَّق باسمها كثيرون الآن، أثبتت في هذا اليوم الخالد بالذات، وربما على مَسْمعِ من مكتب الكاتب، أن الحريات السياسية والاجتماعية، لا بدَّ لها، في الأصلِ، من أن تُنْتزَع.

ثالث هذه المفارقات، أن كاتبنا اجتهدَ حقاً كي يستخرج {الحلم} من صندوق القمامة، فلقد بدأ اهتمامه بالإصلاح الدستوري أواخر تسعينيات القرن الماضي، وتابع البحث عن هذا الدستور الذي كان مختفياً، إلى أن اكتشف نسخته الأصلية ملقاة وسط الغبار في {المعهد العالي للدراسات العربية}، التابع لجامعة الدولة العربية، ليعيدَ نشره لأوَّل مرة، كاملاً غير منقوص، فيكرر التاريخ نفسه، كـ}مهزلة}، بتعبير كارل ماركس، ليعود الكتاب إلى الصدور مُجدداً، طارحاً {دستور الباشاوات} كحلم بعيد المنال، بعد ستين عاماً من غياب الديمقراطية.

المفارقة الرابعة، أن دستور الباشاوات لم يتضمن النص على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، مُتجنِّباً بذلك أبشع أنواع الجدل البيزنطي المحموم، الذي عانته مصر لعقود ولا تزال حتى اليوم، فقد أدت هذه المادة وحدها، ومنذ دستور 1956، إلى صراعات سياسية شتى، واستُغلت من رئيس الجمهورية مرات، وباتت، ويا للغرابة، كأنها المادة، التي تفتح عمل الشيطان، في الواقع السياسي المصري.

بين الماضي والحاضر

يذكر أن الكاتب اليساري المؤمن بحقوق العمال، والذي اختلف مع النظامين الناصري والساداتي، ودفع ثمن اختلافه من حريته الشخصية، لم يشأ إلا أن يثبت، أن دستور {الباشاوات}، الذي كُتب على أيدي وزراء من {العهد الملكي}، انحاز إلى حقوق العمال، ما دفع ضباط يوليو العسكريين إلى التخلص منه فعلياً في صندوق القمامة، لأنه دستور ينتصر للحريات العامة، ويجعل البرلمان محوراً للسلطات، ينتخب الرئيس وتشكل أغلبيته الحكومة، ويقصي القوات المسلحة من دائرة السلطة، فكان أن أُلقي، من الضباطِ أنفسهم وببساطة، في سلة المهملات.

اللافت أن قراءة الكتاب تدلَّ على أن أسئلة الحاضر المصري كلها تقريباً، التي كانتْ ولا تزال هي نفسها أسئلة الماضي، فعقب نجاح حركة الضباط الأحرار مطلع الخمسينيات، كان السؤال: أي نظام سياسي هو الأنسب لمصر، البرلماني، أم الرئاسي، أم النظام المختلط؟ وكان أن اتجه مشروع {دستور الباشاوات}، إلى تحويل مصر إلى النظام الجمهوري البرلماني، الذي يعتقد الكاتب أنه {لو كان وضِع موضع التطبيق منذ ذلك الحين، لما افتقد المصريون حقهم في المشاركة في حكم أنفسهم بأنفسهم لمدة تزيد على نحو نصف قرن}.

الأغرب، أن أحداً لم ينتبه إلى صياغة مشروع دستور جديد، قدمه الكاتب كاجتهاد فردي، وثيقة في ذيل الكتاب، معتمداً على تنقيح الدستور {الحلم}، وتبديل صياغاته ووضعه مع المشروع القديم كوثيقتين تتضمنهما الطبعة {الشعبية} الجديدة، رغم أنه لم يُشر، من قريب أو بعيد، إلى المادة المثيرة للجدل {الإسلام دين الدولة}.

صوّب الكاتب انتقاداته اللاذعة أيضاً إلى المشروع الإسلامي قبيل توليه حكم مصر، معتمداً على ما جاء في البرنامج الانتخابي لجماعة {الإخوان} المحظورة في انتخابات 2005 البرلمانية، فاعتبر الإصلاح الدستوري عندهم لا يستهدف كما يدعون {إقامة دولة مدنية ذات مرجعيَّة إسلاميَّة، بل يعني إقامة دولة دينية، ذات شكل مدني}، وهو ما تحقق فعلياً خلال فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسي القصيرة، والتي أنهت ضمن ما أنهت، على نحو كارثي، دور التيارات الإسلامية في الشارع العربي، لعقود طويلة.

back to top