«لا مكان يصلح للانتظار»
منذ ما يزيد على العقد أخذت على عاتقي مهمة التواصل مع الشباب عبر التعريف بهم والكتابة عن نتاجهم الإبداعي. وكنت، ولم أزل، أرى في ذلك مهمةً في الصلب من مهمة الكاتب. لكنها قليلة وربما تعدّ على أصابع اليد الواحدة، تلك المرات التي غمرني شلال فرح الدهشة وأنا أقرأ لكاتب، وهذا أقل ما أصف به مشاعري وأنا أنتقل من قصيدة لأخرى من قصائد ديوان «لا مكان يصلح للانتظار» الصادر عن دار مسعى بطبعته الأولى 2013، للشاعر علي حسين الفيلكاوي. فهذا ديوان يحق للكويت أن تفاخر به! شعرٌ منقى كالبلور، ويحق للساحة الثقافية الكويتية، والإبداعية الشعرية تحديداً أن تحتفل به، وأن تضع الفيلكاوي في المكان الذي يليق به!( مُحِبو الحياةِ بأقدامِهم طرقٌ لا تُحسُّ / وفوق جباهِ مشاعرهم سمةُ الريح / بين يديهم تُضاء البلاد الخفيّة )
أول ما يقابل القارئ في ديوان «لا مكان يصلح للانتظار» هو اتساع الرؤية الإنسانية التي يتحرك من خلالها علي الفيلكاوي، فهو بقدر انتمائه إلى الكويت وطناً وهوية، ينتمي لوطنه العربي ويُذيب روحه في أرواح البشر. لذا فإن القصيدة عنده لا تحبس نفسها في حيز المعنى الواحد ولا فضاء المكان، بل تتصاعد عبر نَفَسٍ شعري مبدع، لتراكم صورا تأخذ القارئ إلى شواطئ من الدهشة والبهجة والتساؤل والانتعاش، وقد تنحدر به إلى وديان الوحشة والألم.(كيفَ يرسمنا الوقتُ / مقهى يلملمُ أنحاءنا / ثم يسكبنا قهوةً / في فضاء فناجينه / نتبادلُ أفواهنا / ودخانُ الكلام / يدورُ بنا ... / بعضُنا .. إذْ مضى الوقتُ / يشربُ في رشفةٍ بعضنا) قصيدة الفيلكاوي تقنع القارئ بأنه يستند إلى ثقافة شعرية عربية وعالمية واسعة الاطلاع، وإلى قدرة لافتة على توظيف هذا الخزين الشعري. فقصيدته تذهب بالمفردة والجملة إلى أقصى مداهما الشعري، حاملة صوراً إنسانية آسرة، مع احتفاظها بموسيقاها الداخلية التي تضفر القصيدة، ليقف القارئ عند كل مقطع متنفِساً شذاه قبل انتقاله إلى المقطع الذي يليه.سبق للشاعر علي الفيلكاوي أن أصدر ديوانين هما: «لمسات ضوئية» 1988، و»أنت أيضا وداعاً» 2009، كما أصدر رواية بعنوان «غيومٌ تحت وتر» 2012، ولكون الفيلكاوي ينطوي على نفس شاعر حقيقي مبدع، فإنه يفضل البقاء بعيداً عن الأضواء، وبعيداً عن شللية بائسة، ويرى أن قصيدته ونتاجه الإبداعي كفيل بحمله إلى القارئ، وأن أي ضجة أو جائزة حول عملٍ أدبي، لن تقدم لذلك العمل أي إضافة، وأن القارئ سرعان ما يكتشف الحقيقة، ويبتعد عنه!«المدينةُ متعَبةٌ / كمَّمت فمها فضلات العوادمِ / ضوضاؤنا كدّرت صفوها / وجهُها المرهَق المتآكلُ / لا يستثيرُ مشاعرنا / المدينةُ في خفيةٍ / تتحدّرُ فوق الشوارعِ / تنسل من بين أسواقها / نبضها المتقطع / يبحث عن صخرةٍ يتوسّدها / كيف لم نبْنِ كوخاً صغيراً / لتلك المدينة / كي تستريح به».إن عالماً يتسم بفضاء مفتوح ونتاج إبداعي إنساني متاح للجميع، يحتم على كل كاتب أن يقيس كلمته وجملته وعمله الأدبي على مسطرة الراهن العالمي، وألا يرضى لنفسه إلا أن يكون نداً للآخر، وجملة علي الفيلكاوي الشعرية تحقق معادلة وقوفها المستحق إلى جانب أي جملة شعرية عربية وباقتدار واضح:«نخشى السلام ويرهبنا اللاسلام / وفي كلِّ حرفٍ لنا ألف حرف / فمن تحتنا الخوف يجري ومن فوقنا / أيها الوطن المستبَدُّ به / المستبِدُّ بنا / منْ يحرّرنا .. منك ؟».