الإيطالي أري دي لوقا... نصه الروائي قصائد متباعدة

نشر في 17-06-2014 | 00:01
آخر تحديث 17-06-2014 | 00:01
No Image Caption
يقف أري دي لوقا اليوم، في صف أقطاب الرواية الإيطالية الحديثة. وهو لا ينفك يحتل مكانة تتعاظم من مساحة الأرض الإبداعية في إيطاليا. وليس ذلك إلا لأن نصه الروائي يختزن قدراً كبيراً من الأصالة والجمال.
جاء أري دي لوقا متأخراً إلى الكتابة، من السياسة. خرج من تحت معطف مقولة الالتزام ولكن بعد أن نزع عنها قشرة الأيديولوجيا الصارمة وأكسبها جاذبية سحرية.

ولد في نابولي عام 1950 في عائلة متوسطة الحال. انخرط في منظمة la lotta continua  (النضال يستمر) اليسارية المتطرفة، وفي عام 1976 انطلق إلى الانخراط في الأعمال اليدوية ليكون في صفوف }البروليتاريا}. عمل في إيطاليا وفرنسا وأفريقيا: سائق قطارات، سائق شاحنات، عامل سكك حديد، عامل بناء. في حرب البوسنة عمل سائقاً لمنظمة إنسانية.

صدرت روايته الأولى بعنوان: non ora ,non qui  }ليس الآن، ليس هنا} عام 1989. ومعها بدأت الثيمة الأساسية لكتابته تظهر للقارئ: العـزلة والقلق والحب والإيمان والانخراط في مسؤوليات العيش.

يمنح أري دي لوقا الأمور الصغيرة من يوميات العيش جمالية هادئة وآسرة. يقارب مسائل عميقة تمس الروح والوجدان وتلامس الفلسفة والدين والشك والبحث السيزيفي عن معنى الوجود. لكنه يفعل ذلك بلمسة شاعرية بسيطة ومرهفة. بلا حبكات درامية معقدة ولا سعي في أثر مادة قصصية مثيرة. نصه الروائي أشبه بقصص- قصائد متباعدة ومع هذا فإنها تمسك بالقارئ وتسحره. وفي حين تبدو شخصيات الرواية بسيطة، عادية، من دون خلفيات فكرية أو فلسفية فإنها تتمتع بحكمة عميقة في مقاربة الحياة.

الرواية التي بين أيدينا هي يوميات فتى في الثالثة عشرة من العمر، يسكن مع أسرته في حي يسمى جبل الله. تنفتح نوافذ جسده وعقله وروحه أمام الحياة. يدون الفتى في دفتره ما يدور من حوله ولكن ما يدور في أعماقه أيضاً. هي يوميات العيش اليومي المرهق ومتاعب الجسد المراهق الذي بدأ للتو يتعرف إلى معاني الحب والصداقة والشغف بالوجود.

ثقل صارخ

الزمان هو بداية الستينيات في إيطاليا حيث الواقع الاجتماعي والاقتصادي يهيمن بثقل صارخ على الناس ويلوح هذا الثقل بأوضح ما يكون في نابولي التي تكتظ بالفقراء والمعوزين ممن يلتهم العمل الشاق وقتهم وجهدهم ومشاعرهم.

في هذه الأجواء يتعرف الفتى، الذي لا نعرف اسمه، إلى الناس المحيطين به وإلى نفسه معاً. يتعرف إلى سلوك الناس وأفكارهم ورغباتهم ومشاعرهم مثلما يتعرف إلى رغباته ومشاعره. تنكشف له هويات الناس مثلما تنكشف هويته هو أيضاً. هوية جسده وعواطفه وتوقه إلى الحنان والحميمية.

فتى بريء، طيب القلب، ساطع الذكاء، يحفر طريقه بصعوبة في هامش العيش داخل الأزقة المهملة لحي جبل الله المهمل في نابولي.

يعمل في محل النجارة التابع للسيد أريكو. في عيد ميلاده الثالث عشر يتلقى هدية تأسر لبه: لعبة البومرانغ. ذلك القوس الذي يرتد إليه كلما قذفه في الهواء. يتعرف إلى رافانييلو، اليهودي الأحدب الذي نجا من الهولوكوست. كان رافانييلو اختبأ في مكان سري ولم يعرف كم طال به الوقت قبل أن ينطلق إلى القدس. ولكن الرحال حط به في نابولي. تنعقد عرى صداقة آسرة بين الفتى ورافانييلو. يغدو رافانييلو بالنسبة إليه بمثابة أب روحي، يعلمه الحكمة والصبر والأمل. يقول رافانييلو أن الحدبة التي في ظهره ليست سوى مقدمة لجناحين يأخذان بالنمو حتى يحين الوقت ليطلعا فيطير بهما ويذهب إلى حيث يشاء.

ماريا، فتاة الجيران التي في عمر الفتى، تظهر لتكمل المشهد وتملأ عالم الفتى. معها يدرك الفتى اشتباك الروح والجسد. الخيوط الأولى لحب رقيق وشفاف تنعقد وتؤلف نسيجاً ناعماً يمد الفتى بقوة تعينه على مواجهة المصاعب. الآن بات الفتى يدرك أن الإنسان المعزول، الذي يفتقد الحب، هو أقل من كائن إنساني.

والد الفتى رجل فقير وأمي. لا يستطيع التكلم باللغة الإيطالية، كما يقول، بل يتكلم النابولية وهو يعتمد على ابنه في قراءة الفواتير والأوراق التي تأتيه. يورد الكاتب مقاطع عدة بالنابولية في متن الرواية. يقول الوالد للفتى: }نحن في إيطاليا ولكننا لسنا إيطاليين، نحن نابوليون. نتكلم النابولية ولكننا مجبرون على تعلم الإيطالية. نتعلمها كلغة غريبة مثل أي أجنبي... أنت ستتعلم الإيطالية، أما نحن، أنا وأمك فلن نفعل. سنموت من دون أن نتعلمها وسنبقى على لغتنا النابولية}. تمضي الحياة في نابولي بطيئة ومملة. وهكذا يمضي السرد الذي يتغلب على الملل بالحيوية الطافحة التي يكتب بها الفتى يومياته. الأحداث الصغيرة والأحاسيس النابضة بالشوق إلى حياة جميلة والعلاقات البسيطة ولكن الحميمية بين الأشخاص المعدودين الذين يرد ذكرهم في سرد الفتى تلتحم وتؤلف مشهداً شاعرياً. تبدو المقاطع الصغيرة والباترة لليوميات، والتي تؤلف فصولاً بذاتها، كقصائد ملونة في ديوان شعري. سرد هادئ لحياة هادئة. عين شاعرية لفتى نبيه يراقب الزمن الذي يمضي بالجميع إلى الأمام فيتعلم ويحب ويتأمل ويكتسب الحكمة وشهوة الحياة.

لا غرابة أن يحتل دي لوقا مكانة عالية في المسرح الإبداعي الإيطالي اليوم فهو يعيد كتابة النص الروائي الإيطالي بلغة جديدة. يستخرج ذلك الكنز الكتابي الممتد من ماركو بولو ودانتي وصولاً إلى أليساندرو باريكو ويصوغه مجدداً جاعلاً إياه مزيجاً من القصة القصيرة والشعر والسينما والخاطرة والتأمل.

back to top