الوقت مازال في بداية النهار، أطل من وراء زجاج نافذة غرفتي في الفندق، أرى بعض الرذاذ الخفيف، أشجارا مبللة ندية أوراقها بقطرات الماء، الشارع ليس مكتظاً بالمارة، الرصيف الذي اتخذ مكانه بين زرقة البحيرة وسواد الأسفلت يبدو كأنه غسل للتو إلا من بعض أوراق الشجر، التي كأنما كانت تمارس الرقص احتفاءً بذلك الطقس، واحتفاءً أيضاً ببعض العشاق الذين اعتبروا أن اشتراكهم في مظلة واحدة استجابة واجبة لنداء الطبيعة للالتصاق ببعضهما أكثر!

Ad

يغريني المنظر من وراء زجاج نافذة الغرفة، ويحثني على الخروج للمشاركة بهذه الاحتفالية، والانتقال من زاوية المتفرج لأصبح جزءا ولو هامشياً من المشهد نفسه، كأن أكون تلك الشجرة، أو الورقة التي سقطت للتو على الرصيف، أو أن أكون الرصيف، أو المظلة التي جمعت تحتها قلبين، ولربما كان لون بشرتي شافعا لي لأكون ذلك الأسفلت، شجعتني كثيرا جملتي الأخيرة لارتداء ملابسي سريعاً والخروج من الغرفة.

نزلت إلى بهو الفندق، اتجهت يمينا حيث المقهى التابع للفندق، وهو عبارة عن جزأين، جزء لغير المدخنين داخل بهو الفندق، وآخر للمدخنين خارج الفندق، يفصل بينهما جدار زجاجي وباب، عبرت من خلال ذلك الباب، واتخذت لي مكاناً في أقرب طاولة شاغرة، وأحسست مباشرة أنني أصبحت جزءا من ذلك المشهد الذي كنت منذ دقائق أتفرج عليه، بل ان مشاعري تحولت فجأة من متعة الفرجة إلى متعة الانتماء، الانتماء إلى تلك الشجرة، وتلك البحيرة، وذلك الرصيف.

جاءني "الجرسون" بالمشروب الذي طلبت بعد وقت ليس بالقصير، إلا أنني لم أشعر بالزمن وقتها، فقد كنت غارقاً في نشوة انتمائي لذلك المشهد، وبعد قليل من وضعه الطلب على الطاولة، أخذت العصافير تتوافد حولي.

في البداية أتى عصفور واحد وما كاد يقف على حافة الطاولة إلا وطار، ثم أتى عصفور آخر وبقي مدة أطول بقليل، ثم أصبحت الطاولة مزاراً للعصافير أفراداً وأزواجاً هذا يحط وذاك يطير، أخذت أطعم وفود العصافير من بعض المكسرات التي وضعها الجرسون على الطاولة وبعض قطع البسكويت، وأخذتني متعة فعل ذلك بعيداً، أنست لفكرة العيش والملح بيني وبين عصافيرٍ لا تعرفني بالاسم ولا أعرفها بالاسم! تكاثرت العصافير حولي، بعضها توزع على الطاولة، وبعضها على ظهر المقعد الذي بجواري، والبعض الآخر يلتقط قطع المكسرات التي حوّلتها إلى قطع صغيرة ورميتها على الأرض، أحسست بألفة سريعة نشأت بيننا تتماهى مع جمال الجو والأشياء من حولنا، تذكرت أن هذه الألفة بيننا وبين العصافير مفقودة في أوطاننا، العصافير في أوطاننا تخشى اقتراب ظلّ منها، تفرّ مسرعة من مكانها، تحس برعبها يتساقط مع رفرفة أجنحتها عندما تفزّ هاربة للفضاء، العصافير في أوطاننا لا يقتلها البرد بقدر ما يقتلها خوفها في بلاد توزع عدم الأمان للكل بالمجان، بلاد فيها يخاف الكل من الكل، كيف لهذه العصافير أن تأمننا؟!

أوطان لا يستطيع الإنسان أن يألف الآخر، كيف للعصافير أن تتآلف مع أناسها؟! كيف يمكن لها أن تأنس بهم ويأنسوا بها؟!

إذا كان كل منا رصاصة متحركة، فكيف تصادقنا العصافير؟! مرور هذه الخاطرة أعادني إليّ، ونزع من بين يدي انتمائي للمشهد العام في تلك اللحظة، وأعادني سريعاً إلى غرفتي لأتفرج على المشهد من خلف الزجاج، تاركاً العصافير في أمان.