الحديث عن النص المفتوح قد يدعونا في البدء إلى تذكر الأسس والقواعد الفنية التي تمخضت في النهاية عن ميلاد الشكل النهائي للشعر التمثيلي أو المسرحي منذ أرسطو، وهو أقدم جنس أدبي متفق عليه. وإن كانت هناك عوامل وتأثيرات مشتركة ولا شك بين الشعر المسرحي والشعر الملحمي، وخاصة ما يتعلق بنمو الحدث وتطوره وما يتعلق أيضاً بالشخصيات والصراع، فيمكن القول أيضاً بوجود ذات العوامل والتأثيرات بين المسرحية وفن القصة الأحدث عهداً. فالقصة أيضاً تنبني على أسس درامية تقترب كثيراً من الأسس المسرحية كالحدث والشخصيات والحوار والحبكة، ناهيك عن عنصر الصراع الذي يشكل عصب العمل القصصي. إن ولادة الدراما القصصية من رحم الدراما المسرحية يؤكد تلك الوشيجة الحميمة بين الفنون الأدبية، ليس بين المسرحية والقصة فقط، وإنما بينها وبين الشعر أيضاً.

Ad

إن الحديث عن النزعة الدرامية كسمة من سمات الشعر وليس فقط كسمة من سمات المسرحية والقصة يقربنا بلا شك من ذلك التوجه الحديث نحو نقض نظرية

«الأجناس الأدبية» والتبشير بما يُسمى «بالنص المفتوح». وهي دعوة تتساءل باستنكار عن منظومة تلك القيم الموروثة التي أعطت لكل جنس أدبي حدوده وسماته القاطعة، وهل هي حدود وسمات مقدسة ونهائية؟ إنه تساؤل –كما نرى – يحرّض على التمرد وإعادة النظر في منظومة هذه الأصول الموروثة ويضعنا أمام مغامرة «طرح القداسة عن تصنيف الأنواع الأدبية بحيث يُفتح الأفق واسعاً أمام الأجيال اللاحقة لكي يقترحوا إضافاتهم ونقائضهم في أشكال التعبير» -كما يقول قاسم حداد في كتابه: (ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر)– «تلك الأشكال التي سوف تأخذ دوماً شكل حياة البشر وطرائق تفكيرهم وأحلامهم وتتبلور عبر طموح المبدعين لاكتشاف سبل وأشكال تعبيرهم بمعزل عن سلطة المقدس التي يسبغها الكثيرون على التصنيف النوعي لأشكال الأدب».

إننا لن نذهب مذهب المغالاة المطلقة في ما يخص مقولة «النص المفتوح»، وإنما أوردنا الاقتباس السابق– الذي لا يخلو من وجاهة وطموح– لنؤكد على مسألة مهمة في هذا الصدد، وهي إمكانية استفادة الأجناس الأدبية من بعضها البعض عن طريق التبادل والتلاقح والمزج بين عناصرها وسماتها المختلفة. بل ان البعض ذهب إلى أبعد من ذلك حين تلمّس تأثّر الشعر بفنون تعبيرية أخرى أبعد مدى من الأجناس الأدبية، فقد تحدث بول شاؤول عن إمكانية «الاستفادة المتواترة بين القصيدة والفنون الأخرى: كالرسم، والنحت، واللوحة، والصورة الفوتوغرافية، والرقص، والموسيقى، والأغنية، والسينما، والمسرح، والخطبة، إنها تأخذ من بعضها وتتناسل أحياناً كثيرة من بعضها، لكن على أنها قصائد تحتفظ بسماتها وطريقة خطابها ولغة بثها».

إن الحديث عن التناسل والتلاقح بين الأجناس والفنون الأدبية لا يعني بأية حال مسخ حدود الجنس الأدبي والجور على استقلاليته وحدوده، بقدر ما يشير إلى ضرورة إلتماس المهارة في التوظيف وتوخي الصهر والتواشج الخفي الذي يوحي ويومئ عن بُعد ويشي بظلال التوظيف وروحه، دون السقوط في حال من القصدية المعلنة.

وهذا المنحى التجريبي للنص المفتوح على الأجناس الأدبية بشروطه السابقة، له أثره ولا شك في إغناء التجارب الفنية ورفدها بروافد التجديد والتطوير. وانفتاح النص الشعري على آفاق الدراما على وجه الخصوص يُعد مؤشراً صحياً على خروج الشعر من انغلاقه على دائرة الجنس الأدبي الصارمة، وقدرته على التناغم والتواؤم مع معطيات الفنون الأدبية الأخرى. بل يمكن القول ان النزعة الدرامية باتت من الملامح الفارقة في الشعر المعاصر منذ أن أصبح الشاعر في مواجهة عوالم وظروف حياتية واجتماعية وكونية على جانب من التعقيد والتشابك، الأمر الذي يستدعي كمّاً أكبر من التفاعل والتحاور والمناجزة، ويستدعي أن يجد الشعر نفسه في أتون الصراع لا محالة.