يمتد الطيف السياسي في آسيا ويتنوع من الدكتاتورية المتوحشة في كوريا الشمالية إلى الملكية الدستورية المستنيرة في بوتان (وهي مستنيرة لدرجة أنها طورت مؤشر "السعادة الوطنية الإجمالية" كمؤشر بديل لـ"الناتج المحلي الإجمالي") مع وجود العديد من الأطياف بينهما، لكن التهمة القديمة بأن آسيا غير مناسبة للديمقراطية على الطراز الغربي هي تهمة تعاود الظهور مجدداً... لكن هل المتشككون محقون؟

Ad

في جنوب آسيا وشرقها فإن عدد الدول الديمقراطية يزيد على عدد الدول الدكتاتورية بمعدل 17 إلى 6، لكن الدول الديمقراطية تواجه أوقاتاً صعبة، فقد وصل الوضع السياسي في تايلند إلى طريق مسدود مع اندلاع مظاهرات ضخمة معادية للديمقراطية، وبات هذا الوضع يتصدر الأخبار العالمية الرئيسة، كما جرت انتخابات عنيفة في بنغلادش، ووقعت انتهاكات لحقوق الإنسان واسعة النطاق في سريلانكا، وقد عانى الكمبوديون قمعاً سياسياً وحشيا، كما أن الحياة السياسية في أكبر دولة ديمقراطية في العالم وهي الهند تمتاز بالصخب وانعدام الانضباط.

بالرغم من ذلك فإن مفهوم التفرد الديمقراطي هو مفهوم خاطئ وقصير النظر من الناحية التاريخية، ورغم أن معظم الدول الغربية هي دول ديمقراطية حالياً، فإن هذا لم يححدث إلا منذ تسعينيات القرن الماضي، وفقط قبل نصف قرن من الزمان كان بإمكان المرء أن يحصي الدول الديمقراطية الغربية على أصابع اليد الواحدة، حتى هذه الدول لم تكن كاملة، ولو استخدمنا المقياس الأكثر تعبيراً عن العملية الديمقراطية- المعاناة الإنسانية- لوجدنا أنه لا يمكن اعتبار الولايات المتحدة الأميركية كدولة ديمقراطية بحق قبل الانتصارات التي حققتها الحركات المدنية في الستينيات.

ورغم أن بريطانيا كانت منارة للديمقراطية في القرن العشرين، فإنها لم تقم بنشر ذلك المبدأ في إمبرطوريتها التي كانت تضم شعوباً ومناطق أكثر من أي قوة عالمية سابقة، فقد قامت بريطانيا بقمع الحركات الاستقلالية في الهند وفي الشرق الأوسط وإفريقيا (رغم أن العديد من أعضاء تلك الحركات قد اختاروا الحرب إلى جانب بريطانيا خلال الحربين العالميتين).

إن الهولنديين كذلك لم ينشروا ديمقراطيتهم في إندونيسيا، كما لم تدعم فرنسا إجراء انتخابات حرة وعادلة في الهند الصينية أو في مستعمراتها في الشرق الأوسط وإفريقيا. وكان البلجيكيون على وجه الخصوص متوحشين في الكونغو، كما قام الإسبان والبرتغاليون بنهب أميركا اللاتينية، ولم يكن الألمان أفضل حالاً في جنوب غرب إفريقيا. ومن الجدير ذكره أن اثنتين من أكثر الأيديولوجيات المرعبة على مر التاريخ وهي الفاشية والشيوعية نشأت وترعرعت في أوروبا.

وحقيقة أن كلمة ديمقراطية مشتقة من اللغة اليونانية القديمة، وأن المرء يمكنه تلمس نواة الفكر الديمقراطي في الفلسفة اليونانية لا تعني بأي حال من الأحوال أن الديمقراطية هي جزء لا يتجزأ من الحمض النووي السياسي للغرب. فبعد قرون من الحكم الشمولي والمطلق والتطرف والحروب والثورات والقمع كان بوسع الغرب بوجه عام أن يدعي منطقياً أنه حر وديمقراطي ومسالم ومزدهر، حتى الآن هناك استثناءات كما أن هناك جدلاً ما إذا كانت هذه الديمقراطية الغربية نتيجة للسلام والازدهار أو سبباً لهما.

إن الغرب لم يكن دائماً أكثر المناطق تقدماً من الناحية السياسية، وعندما قدم المبشرون اليسوعيون إلى الصين في القرن السابع عشر تكلموا بحماس عن كيف يمكن للأوروبيين أن يتعلموا من الفلسفة السياسية المستنيرة للصين وهي الكونفوشوسية، وقد قام اثنان من الفلاسفة المستنيرين، وهما فولتير وكانط، بعمل بتلك المهمة بالتحديد.

إن المفاهيم الكونفوشوسية مثل "تفويض السماء" كانت تبدو أكثر عدالة بكثير من "الحق الإلهي للملوك" في أوروبا. لقد تتبع الحائز جائزة نوبل للاقتصاد أمارتيا سين منشأ الحوار الهندي الديمقراطي، واكتشف أنه يرجع إلى الامبرطور البوذي آشوكا وذلك في القرن الثالث قبل الميلاد، كما أنه قارن بين التسامح الديني الذي كان يدعو إليه الإمبرطور المسلم أكبر في حقبة ترجع لسنة 1590 للميلاد من جانب، وبين "محاكم التفتيش" التي كانت تطارد ما أطلقوا عليهم "الملحدين" في أوروبا في الوقت نفسه، على الجانب الآخر.

إن افتراضاتنا عن الرخاء النسبي لآسيا والغرب يجب إعادة النظر فيها أيضاً، حتى حقبة قريبة قبل مئتي عام مضت شكلت آسيا ما نسبته 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، لكن بعد الثورة الصناعية في شمال غرب أوروبا واستعمار معظم آسيا وحروب الأفيون في الصين تغيرت مواقعهم النسبية، وبحلول الخمسينيات من القرن الماضي انخفضت حصة آسيا من الناتج المحلي الإجمالي الدولي إلى أقل من 20%.

لقد ذكر الاقتصادي السويدي الحائز جائزة نوبل غونار مايردال في كتابه سنة 1968 "الدراما الآسيوية: تحقيق في فقر الشعوب"، أن مفردتي "آسيوي" و"فقير" كانتا مترادفتين، لكن خلال العقود الثلاثة الماضية يبدو أن الرخاء الآسيوي قد أصبح في متناول اليد مرة أخرى.

بالطبع، فإن من المستحيل التنبؤ كيف كان يمكن لآسيا أن تتطور لو بقيت القوى الإمبريالية الغربية بعيداً، حيث لا سبب يدعونا للاعتقاد أن المنطقة لم تكن لتجد طريقها للسلام والازدهار والديمقراطية. إن آسيا تقف الآن اجتماعياً واقتصادياً على وجه التقريب في نفس الموقف الذي كانت تقف فيه أوروبا في بداية القرن العشرين، حيث يأمل المرء أن رحلتها الديمقراطية سوف تكون أقصر وأقل عنفاً.

من الأهمية بمكان أن نذكر أن كوريا الجنوبية تسير بالفعل على هذا الدرب وبالرغم من 35 سنة من الاستعمار الياباني الوحشي وثلاث سنوات من الحرب الأهلية والدكتاتورية العسكرية ونقص الموارد الطبيعية، فلقد انعتقت البلاد من الفقر المدفع لتصبح- في منطقة متقلبة- ديمقراطية مستقرة ومزدهرة ونابضة بالحياة، ومن المؤكد أن جاراتها يمكن أن تسير على نفس الدرب.

إن الديمقراطية ليست منتجاً غربياً وليست حكراً للمواطنين الغربيين فقط. إن آسيا لديها ما يكفي من الخبرة السياسية التي توحي بأنه حتى الدول الدكتاتورية الست المتبقية فيها يمكن مع مرور الوقت أن تتحول إلى أنظمة حكم أكثر عدالة مع السلام والازدهار الذي يأتي مع ذلك.

* جان بيير ليمان، أستاذ فخري للاقتصاد السياسي الدولي في "آي إم دي"، سويسرا وهو مؤسس "مجموعة إفيان"، وأستاذ زائر في جامعة هونغ كونغ وجامعة "إن آي آي تي" في نيمارانا راجستان.

«بروجيكت سنديكيت- معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»