فوزي يمّين في «تمارين على تبديد الوقت»... مروحة ظلال أنيقة لشاعر لا تخذله القصيدة
من شعراء الحداثة من حلا في عينه وزن وقافية فرآهما حصرماً في حلب لأنّ ما وصلت إليه العين بقي حلم اليد. ومنهم من كتب القصيدة الكلاسيكيّة، وكان حديثاً فيها، غير أنّه اختار النصّ الحرّ، المعروف بقصيدة النثر، عن سابق تصوّر وتصميم معتبراً أنّ هذا الشكل من الكتابة يرتاح له رأسه ورأس قلمه.والشاعر اللبناني، فوزي يمّين، ذو بدايات موفَّقة، على تميّز، مع القصيدة العموديّة، إلاّ أنه نصب خيمته الشعريّة على ضفّة الحداثة باحثاً عن ظلاله في مراياها، مستطيعاً الإقامة في جُملته الخاصّة النظيفة من الرتابة والتشابه المتكرّرين في كثير من الشعر الحديث.
رغم أنّ فوزي يمّين يعيش في عصر الوقت الطائر بجناحين، ويعرف كيف تؤكَل كتفه شعراً، نجده في جديده الشعريّ «تمارين على تبديد الوقت» رابطًا كيس الوقت بطرف عصاه، ولا يعرف كيف ينفقه، وفي أيّ تراب يبذره: «هذا الكمّ الهائل من الوقت/ كلّ يوم/ كيف أبدّده؟...». الوقت اليمّيني لا يبدو أسير ساعة اليد أو دمية لعقاربها. إنّه الوقت المقيم خارج الوقت بالمعنى المادّي، وإذا جاز القول، إنّه الوقت الآخر الذي يؤلم ذوي الرؤى والنبوءات، والذي يشدّ على أرواحهم لتأتي بالمختلف والصادم والصاعق. وها هو الشاعر ينثر وقته: «بالحبّ على سنّ الرمح وعلى رأس السطح/ بالسهر على ورق الكتابة/ بالكتابة على ورق السهر»... ويكثر التعداد لكلّ ما هو نشاط يوميّ يتّصف بالعاديّ والمتكرّر، وإن على مرارة أو فرح، من دون أن يصل يمّين إلى الخوابي التي تتّسع لما يحتاج إليه من وقت. ولا شكّ في أنّ العبثيّة تحشر أنفها في نصّه وتقول كلمتها ولا تمضي، طمعاً بالتسلّل إلى شرفات النصوص الأخرى لتأخذ حصّتها منها. فالشاعر هو الذي يتلقّى صفعة الوقت التي ليس له أن يردّها سوى بالتشظّي داخل ذاته ليعيد جمع الشظايا بهدف ترميم وجهه في فضّة المرآة: «هذا الكمّ الهائل من الوقت/ كلّ يوم/ كيف يبدّدني؟».في قصيدة «تعريف» ينسحب يمّين من ذاته ويقف قبالتها محاولاً قراءة أبجديّته الداخليّة والعثور على البوصلة التي توجّه قطيع مشاعره وتسوق في الفضاء أسراب أفكاره. فعيناه مثقلتان بالغربة والغرابة ترميان شبكتيهما في ماء السخرية والجمال البعيد: «نظراتي طالعة من عينين غريبتين إلى أقصى السخرية والجمال». وهو المحاصر بالجفاف، ينشد شكل الماء على اكتفاء به طالما أنّ الغيم محاصر مثله بلعنة العطش: «أنقّب في الغيم عن نقطة ماء لا تمطر». وعلى ضفّة الانتماء يقف على تراب لا يتّسع لخطوة لأنّه صار ألماً صلباً في ذات الشاعر لا وطناً تعلوه سماء أمنيات زرقاء: «والأرض التي تربّيت فوق ترابها صارت حجراً في بطني». أمّا سبب حزنه فعائد إلى أنّه ليس من هواة تسلّق الجبال الفارغة بامتلائها، إنّما هو من الذين يتسلّقون الوديان نزولاً، الوديان الممتلئة بفراغها حيث يجد ضباب الحزن وطنًا استثنائياً له: «فإذا رآني أحد حزيناً/ ذلك أن سعادتي تهبط الوادي ولا تحبّ رأس الجبل». وتبدو كآبة يمّين مسوّرة بعاطفة الأهل ووجع العقل وبعض من السماء: «كآبتي مظلّة تحميني.../ أورثني أبي كتاب المقهى ودفتر الرصيف/ وشكّتني أمّي في حضنها شتلة تبغ»... فكيف يتّقي كآبته من مشى على جسر الصداقة إلى الصدى والظلّ وأشياء الليل المجنّحة، مكتفياً من الأصدقاء بـ: «أصابع مريم العذراء في الجمعة الحزينة»؟! ويستمرّ الشاعر ناشداً ذاته في برّيّة الكآبة، بعدما أخذه البحر ومنحه رتبة «غريق»، ورَقّاه إلى رتبة «جزيرة نائية نيّئة»، جزيرة هي جحيم نفسيّ، ومكان تبنيه الأفكار التي ينزفها القلق ذو الطّابع الوجودي، وفي هذا المكان يتمادى الخيال الأسْوَد في بناء شخصيّات روايته وفي صناعة الفجيعة: «حتى غدوت جزيرة نائية نيّئة/ لا يقصدها إلاّ القراصنة العور/ ذوو الأظافر الوسخة والأسنان الذهبيّة والسيقان الخشبيّة / والسفن السوداء المنهوبة اللمّاعة التي تشبه وحشة الروح». حصان الفرحمن الصعب جدًّا في «تمارين على تبديد الوقت» أن نجد يمّين ممتطياً حصان الفرح، وشاهراً سيف القناعة، ومعتمراً خوذة سلامه الداخليّ. فهو رافض الطمأنينة لأنّ في قعرها ما يقلق وهي لا تعرف ذلك، وثائر على المجتمع الذي يعيد نفسه ويتكرّر بكلّ ما فيه من سواد يُطعم العقل خبز الماضي المتّهَمة سنابله بأنّها أوّل سبب الجوع. ويمّين يحتجّ على الغد أيضاً لأنّه يراه ماضيًا معادًا ليس فيه من جديد سوى أوراق الروزنامة، ويشتهي زوال الشكل الأبيض وكذبة الظاهر الخدّاع، ويعلن في «أمنيات خضراء، زرقاء وحمراء» أنّ مصيبة زمننا هي في الذين يبالغون في صياغة المظهر الأنيق والجذّاب مدّعين قضايا نبيلة بينما هم في الواقع تجّار قضايا يحترفون تضييف العتمة ذات الأظافر السود في كؤوس النهار البيض: «أودّ أن أسكر ليلاً/ في غرفة ضيّقة غير مدهونة/ مع رجال متّسخين يثيرون القرف والاشمئزاز/ لكن عندهم قضايا نظيفة تشعّ كأيقونة على جدران اليأس».وإذا كانت الكآبة ضيفاً ثقيلاً وفائق الوقاحة على بساط روح الشاعر، فإنّ يمّين يلجأ إلى مداواة الكآبة بأعشاب العاطفة البرّيّة، ويمضي إلى أنثاه حاملاً قلبه على كتفه جرّة تنزل بنزق إلى ماء الحبّ المقدّس، وتتنازل له عن عطشها وارتوائها في آن: «التجويفتان السوداوان تحت عينيكِ.../ دافئتان لذيذتان/ أتسلّقهما على خيط السهر/ لأسرق قبلة تفلت من فمي»... ومن التجويفتين إلى الأصابع التي لها طول ثروة حرب وطول السروة التي تهرب من حقلها إلى بال الهواء: «أصابعك الطويلة كثروة في الحرب/ كسروة في بال الهواء»... وحين تحضر المرأة تتلاشى قضايا الحياة، وكلّ شيء يتبرّأ من قيمته، ويتفرّغ الوقت لقلبين هاربين من الحياة إليه لعلّهما يجدان تحت قنطرته حياة متواضعة تليق بخفقانهما: «أمّا الأمور السخيفة التي لا تستحقّ الاهتمام/ كالمنطق والتفكير والنظام والعمل والمال والأقارب.../ فأضعها في مزهريّة ولا أسقيها/ أتركها تذبل عن قصد/ إلى أن أراك تعودين إليّ/ في كلّ مرّة/ وتجمعين شتاتي بين يدي قلبك الصغير»...في «تمارين على تبديد الوقت» يواصل الشاعر فوزي يمّين استكمال مروحة ظلاله في ساحة الشعر الحديث على فرادة تثبت أنّ في صدر محبرته موهبة نادرة تجود على جملته الشعريّة بعمر طويل.