حكاية صورة
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي كنت في بداياتي الشعرية بعد انقطاعي التام عن الرسم، وكان بي جوع معرفي رهيب وحب استطلاع يود أن يأكل العالم ويكتشف كل الأسرار المختبئة خلف أبوابه، ونهم فظيع للغوص في جميع أنواع المعرفة، ولم تكن القراءة وحدها تكفيني ولا متابعة المعارض التي في الكويت أو خارجها ولا السينما ولا متابعة الندوات والمهرجانات الثقافية، كنت مثل النار التي تلتهم لتشتعل أكثر.وأذكر في ذاك الوقت، كانت الكويت تستقبل كبار الأدباء والفنانين في مختلف المجالات بانفتاح تام، مما أتاح لنا نحن، الكتاب المبتدئين، في الكتابة فرصة للتعلم وكسب المزيد من الخبرة الفنية والأدبية والثقافية، وعن نفسي كنت أتفتح كل يوم بوعي يكتسب الخبرات ويكتنز المعرفة.
وكنت أحرص على متابعة ندوات رابطة الأدباء وجمعية الخريجين والاجتماعيين، ولم أكن عضوة في أي منها، فقط كنت أتبع هواي وألتقط ما يشدني ويستهويني من ندواتهم، وكانت هناك ندوات مميزة ورائعة، على سبيل المثال ندوة لشاعر داغستان العظيم رسول حمزتوف، التي كانت ممتعة وكسبا معرفيا لا يعوض، وأيضا كانت هناك أمسية جميلة لنزار قباني حظيت بحضور لم أر مثله من قبل، ومن الندوات المثيرة كانت الندوة التي أُقيمت في الجامعة للشاعر الكبير أدونيس التي أثارت لغطاً وبلبلة بين الإسلاميين، محاضرات وندوات ولقاءات مهمة بكل ما فيها. يا ليت كل هذه الجمعيات والروابط التي تعنى بالأدب والفن والثقافة تعمل على تنزيل كل ما لديها من سجلات لتاريخ أدبي وفني وثقافي مهم تضعه وتعيد نشره على مواقع خاصة بها على الإنترنت، ليصبح أرشيفا ومرجعا مهما لكل باحث عن ثقافة ذاك الوقت، التي في رأيي كانت محطة زمنية رائعة متأججة بانفتاح وعي ثقافي كبير. وهناك ندوة أقامتها رابطة الأدباء للدكتور سمير سرحان الذي كان يرأس الهيئة العامة للكتاب في القاهرة، وكانت هذه المرة هي معرفتي الأولى به، ثم أصبحنا أصدقاء في ما بعد، هذه الندوة بالذات أحدثت هزة في داخلي، شيء ما بي استيقظ بوعي جديد لمعرفة طازجة، كان يتكلم عن ثقافة الصورة، ود. سمير، رحمه الله، مثقف كبير غير عادي قادر على سحر مستمعيه بحلاوة الكلام الثري بالعلم والمعرفة والخبرة المعجونة بالتجربة الإنسانية، لذا كان كلامه يشق بذرة وعيي ويستنهض انباتها، كما كانت الصورة التي يتكلم عنها تشق ذاكرة زمنها لتخلد فروعها في أزمنة قادمة، وكان يقصد من كلامه التركيز على مدى أهمية الصورة في حياة البشرية، وكيف انها ذاكرة تجمد كل لحظاتها المعيشة في لقطة صعب أن يقدر على تخطيها الزمن، لأنها قد تمكنت من اكتناز لحظتها إلى الأبد فيه.تذكرت هذه المحاضرة التي قد يكون مر على وقتها 26 سنة ربما أكثر قليلا أو أقل، فقط أرشيف رابطة الأدباء قادر على تحريرها من أسرها المزمن، ووضعها في شاشة الانترنت لتحيا من جديد، وما ذكرني بها هو صورة لي مع ابني في باريس حينما كان في السادسة من عمره، وكان عفريت شقاوة لحوح جدا، لا يمكن أن يتخلى عن مطلبه إلا بتحقيقه، ومن ثمة البدء في مطلب جديد، مما كان يضجرني خاصة في لحظات التعب حينما نعود إلى "الأوتيل" من بعد جولات سياحية مرهقة، يبدأ طلباته الجديدة، وواحد منها كان إصراره على أخذ صور في الكاميرا الآلية لصالة الأوتيل، حيث توجد السينمات والمقاهي والمحلات، مما كان يحرجني أن أدخل صندوق الكاميرا لأخذ صور، لكن مع إصراره وإلحاحه الذي لا توجد قوة في الأرض قادرة على ثنيه عما يريده، حتى زهقت شقيقته من "الزن" المتواصل فطلبت مني تحقيق رغبته، ولمَ لا تلبين طلب ولد ميت رغبة في أن يتصور مع أمه؟ودخلت معه الصندوق لنلتقط الصورة معا، هذه الصورة الآن باتت من أثمن ما أملك في حياتي، فقط اختزنت بكل ذاكرة زمنها ومكانها ورائحتها وحكاياتها وحبها الكبير الذي سيبقى حتى لو انتهينا نحن من حكايتها، ستبقى هذه الصورة تحمل سرها الجميل.مثلما اختزنت صورة تشي جيفارا مع حبيبته كل ذاكرة حدثها برغم فنائهما، ما زالت تهزني بعنف توهج لا يُهزم.