هي صحراء الكويت الجميلة المتلونة والمتموهة والكذابة، لا أحد يصدق كذبها حين يراها في الربيع، بكامل حسنها الباذخ المكتمل بهفهفة الوداعة واللطف التي تبسطها عبر المسافات الشاسعة من الرمال التي اكتست بالنباتات الصحراوية، وتزينت بزهور النوير الرقيقة المبهجة للروح والمفرحة للقلب، ويزيد هذا الجمال برك مياه المطر، وزقزقة الطيور المهاجرة والزائرة لها في حلة الربيع المؤقت، فكل هذا الحسن واحتفاء الطبيعة ليس إلا مروراً عابراً تتحول فيه الصحراء وتنقلب من حال إلى حال كأنها ليست هي، فكل تلك القسوة القاحلة والجفاف والصهد الحارق والجحيم الذي يلتهم الأخضر واليابس، ولا يتحمله بشر أو حجر وتهجرها الحياة كلها حينما ينتهي فصل الربيع ويسقط القناع الكاذب عن وجهها الحقيقي الصحراوي المتموه الكاذب۔

Ad

صحراء الكويت عشق أهلها الدائم، فالكل يرتادها، يعيش ربيعها، ويتحمل بردها القارس،لأنها فاتنة لا يفلت أحد منها، وأنا من عشاقها فمنذ طفولتي اعتدت عليها، امتصتها خلاياي وشبكة أعصابي ودمي، فباتت محبتها عشقاً وإدماناً ليس من السهل مفارقة ذاكرة شجنه، وهو ما جاءت سيرته وتكررت في الكثير من كتاباتي الروائية، وهذا مقتطف من رواية "النواخذة" وهي ثاني رواية، وأول رواية طويلة لي۔

"السماء سهل، والأرض سهل، والطائر حائر ما بين السهلين۔

الوسم شق جلد العطش، غرز في صرة الأرض أوله۔۔ بزبز صدر الصحراء، نبت الأخضر في صياهدها۔۔

ارتفع نهد الأرض، ووشت الأنثى برغائبها، لا سحر يفوق هذا السحر، لا ثرثرة تشي بضجيج صمتها۔

لا سر واضح، غائر مثل سرها، ولا عشق قاتل مثل عشقها.

لا يعرف الصحراء إلا من أحبها، ولا تتغنى الربابة إلا مع عازفها.

عشق الصحراء سر تعويذة شيء غامض، قريب وبعيد، يومض ويختفي، يمنح ويمنع، يمتلئ ولا يمتلئ، يشبع ولا يُشبع، يكون ولا يكون، إحساس بالإحاطة وإحساس بالفراغ، الأمن والخوف، الوضوح والغموض، العزلة والضجيج، النهارات الشاسعة الرنانة بتكسر أشعة الشمس وانعكاساتها، بلعبة المساحات والظلال۔

خداع البصر بين الحقيقة والسراب، الخيالات المتضخمة لظل الحيوان والنبات، لانعكاسات الوهم الكاذب، الظلام المتراكم بلا حدود، ستائر ظلمة كثيفة، سدف تتهدل خلف سدف، والظلام يغور في عمق الفراغ بلا حدود، يصطدم الصوت بالصدى ويرتد بالعزلة الموحشة۔

وهذا الفراغ المراوغ لا يكف عن الحصار، يمتد بالوجود ويسحب الألفة، هدوء يحاوط الجهات، يضج الصمت من نفسه، ووجود يتقزم، يصغر، يتوه، شامة في شساعة الوحدة۔

صحراء تأخذك منك إليها، تسحبك، تجرك، لا مساومة، لا مقاومة، مسلوب، مسحور، مفتون، تائه، ضائع، ومجنون۔

الصحراء صامتة ومتكلمة، غامضة ومتجلية، لا تمنح نفسها بسهولة إلا لعين عاشق مرهفة ودقيقة، تدرك مخابئها ومساربها، فروقاتها المتموهة، وتحولاتها السرية الصامتة المفاجئة۔

العطاء من جنس العطاء، الصحراء لا تعطي ذاتها إلا لمن يموت في عشقها۔

وحده العاشق يدرك أسرارها وقوانينها الصارمة، التحولات البطيئة المتخفية والخفية عن كل الأعين إلا عن عين عاشقها۔

التغيرات المتدرجة في تمويه الشكل واللون، التحايل الماكر في التخفي عن أعين الغرباء۔۔

ومهما كان التغير طفيفاً فهو حتما يقود إلى نتيجة، الصحراء قانون واضح لا يعرف الكذب، يتطلب قلباً شجاعاً لا يهاب ليمضي في رحم الصمت والخلاء۔

الظلام في الصحراء لا يشبه أي ظلام۔۔ والصمت في الصحراء لا يشبه أي صمت، العتمة والصمت مزيج منصهر، غور عميق بلا حدود۔۔

كأنه السير في نفق۔۔ أو المضي المنسحب في دوران دوامة۔۔ كثافة ثقيلة تسحق الروح والأذن معاً۔۔

ووحشة تنبح ۔۔ تفح، تعضعض من كل الجهات۔

الصحراء خداعة، متموهة، متلونة، وكذابة، لا تعرف الوفاء حتى مع عاشقها.

لا تصدق۔۔ لا تفي.

خداعة للروح والبصر۔۔ كيف يمنح رحم الجفاف والعطش؟

كيف تجود نهارات القيظ والظمأ؟

كيف يعطي من لا يملك العطاء؟

الصحراء وفاؤها محكوم بالريح والأمطار.. بنوازع الرياح ومزاج المطر، تتشكل وتُشكل كل من فيها وما عليها بنفس اللون والدرجة.

فيها الخزامى والنوير، الشيح والبنفسج، وفيها الشوك والحنظل، فيها الذئب والثعلب، وفيها الغزال والحبارى والأرنب.

هذه هي الصحراء، تشكل أبناءها ما بين اليمام والصقور، الذئاب والثعالب.

بين الشهامة والنبل، بين الخسة والغدر،أحيانا تكون معهم، وأحيانا تشي بهم.