في تقديمه لكتاب {ديوان بغداد/ والصورة النمطية للمدينة} يرى محمد مظلوم أنه خلف رماد التواريخ {تبدو بغداد القديمة ضائعة حتى بالتباس تسميتها، وآثارها الموغلة في قدم الحضارات التي مرت بها، أو حولها ما بين {المدائن} الفارسية، و{عقرقوف} الكيشة، و{تل حرمل} البابلية، وسيكون البحث عن بغداد: المدينة والتاريخ، ومثله التدقيق في أصل المدينة، أشبه بتقليب صفحات في تلك النار}، هي مدينة الروايات والأساطير والحرائق والأسماء والغزوات. واللافت {في الروايات التاريخية التي لا تخلو من نكهة أسطورية عن بداية تأسيس بغدد أن أبا جعفر وهو يستكشف الأرض قبل بنائها بحث كثيراً عمن يعرّفه باسم تلك البقعة من الأرض، فلم يجد فيها من البشر سوى كاهن معتكف، وشخص آخر لا يتكلم العربية، كان اسمه داذ؟ قال للخليفة بلسان فارسي: {باغ لي..!} أي هذا البستان لي}...

Ad

يضيف مظلوم: {إذا  كانت خريطة النار أقدم تصور افتراضي لبغداد، فإن المقابر أقدم ما يمكن أن يدلنا على خريطة الحياة التي تنهض من الموت في المدنية خاصة إذا كانت تلك المقابر تضم قبور الخالدين}.

والواقع في بغداد أن قبور هؤلاء هي إحداثيات بديلة كي لا تضيع المدينة وخططها القديمة، أضرحة أبو حنيفة وموسى الكاظم وأحمد بن حنبل والشيخ معروف الكرخي وبشير الحافي...  

وعند هذه النقطة بالذات بدأ قلق الاختبار الريادي في بغداد، كونها تلخّص تجربة حكم العباسيين في عاصمة أسسوها لسلطانهم، وأخضعوا منها بقية الأنحاء، بدأ يتأسس السؤال الأهم: هل هي في واقعها ثكنة، أم بيت الحكمة؟

 ورغم أن المدينة دأبت على التشكل من جديد إثر كل نكبة من نكباتها، فإنها لم تعد عاصمة، فبعد ما سمي الفترة المظلمة منذ الغزو المغولي الأول، ثم الثاني، وعاقب الفيضانات والطاعون عليها، إلى العبث الكبير الذي مارسته القبائل التركمانية، بعدما تحولت إلى قصبة ولاية تركية، وفي طور صياغتها الثانية، بوصفها عاصمة لدولة، جاء فيصل الأول إلى بغداد مصطحباً نخبة من أصدقاء والده ومن أصدقائه هو، خلال ما عرف بالثورة العربية ضد العثمانيين، وكانوا شريحة متنوعة ستشكل لاحقاً قاعدة من الانتلجنسيا العربية تتركز في العاصمة،  بينما بقيت البداوة والعشائرية هي الملمح الأساسي لعموم محيط بغداد.

وظلت بغداد على مدى عقود حتى قيام الجمهورية في تموز 1958، محكومة بميراث عربي، نموذج بديل للخلافة الإسلامية، وكانت بغداد هذه المرة هي المدينة النموذجية لعاصمة مستعارة لإعادة إحياء تاريخ غارب لأمّة منتكسة.

 والواقع، يضيف محمد مظلوم، أن بغداد ظلت جغرافيا بشرية قلقة، واستمرت خاضعة لتبدلات ديموغرافية لم تهدأ في يوم من الأيام. العرب بعشائرهم ذات الجذور والأكراد بأقسامهم، والكلدانيون، والأرمن، وكذلك التركمان والصابئة، شكلوا بغداد، لكنهم لم يستطيعوا الصمود لتشكيل خميرتها القادرة على الرسوخ.

سيرة عبر العصور

وفي الديوان الذي جمع فيه مظلوم كثيراً من القصائد، تروي بغداد سيرتها عبر العصور، ويدوّنها شعراء من مختلف الأزمنة والأعراق والبلدان، منذ تأسيسها إلى عصرنا الراهن نجدها تتقلب في صور شتى وليس في أذهان شعراء هذا الديوان على كثرتهم فحسب، نجدها تتقلب في الزمن الواحد نفسه، وفي مخيلة الشاعر نفسه، بل إنها تعيش هذا التقلب في قصيدة واحدة يكتبها شاعر ما من شعراء هذا الديوان.

يبدأ الديوان من أبي النواس الذي تنطوي تجربته على مقاربة لافتة للحياة البغدادية بما كانت تعيشه من دعة ورفاهية. إلى جانب أبي نواس نقرأ لأقرانه ومعاصريه من الشعراء أيام المجد الصاعد لبغداد، من الظرفاء والندماء، كمطيع بن أياس، وبكر بن النطاح، وأبي الشيص الخزاعي، والعباس بن الأحنف، واسحاق الموصلي والحسين بن الضحاك.

على أن هذا الصعود اللافت لبغداد، لم يمض قدماً نحو القرون بلا تعثر وانكسارات في الطريقة، فلم يكد ينقضي نصف قرن على تأسيسها حتى تعرضت بغداد لأولى انكساراتها أو نكساتها المبكرة، وتمثلت في صراع الشقيقين (الأمين والمأمون) وانتهت باستباحة بغداد وخرابها في حرب أهلية ومقتل الأمين.

يتمثل {ديوان بغداد} هذه المرحلة في نصوص بارزة كتبها شعراء كانوا شهوداً على ذلك الخراب المبكر، وفي مرثية الخريمي المشهورة، ومراثي عمر الوراق المتعددة... وقد تراجعت بغداد، الى حين، بعد ذلك الصراع، عن مكانتها وخسرت موقعها عاصمة للإمبراطورية الاسلامية لصالح مدينة سامراء المجاورة، وهو ما انعكس على قصائد أبرز الشعراء كأبي تمام ودعبل الخزاعي.

انهيار

بيد أن الانهيار الأكبر لبغداد الثقافي والاجتماعي والسياسي في التاريخ كان في سقوطها المدوي والدموي في اجتياح المغول لها عام 1285 ودخول جيش هولاكو المدينة ورمي مكتبتها في النهر، وكتبت تلك الفترة مراثي كبرى للمدينة لعل أشهرها مرثية أبن أبي اليسر الذي عاصر تلك الفترة وكتب مرثية عن بغداد وهو في سورية، ومرثية سعيد الشيرازي العربية اللافتة حيث وقف علي عباّدان يرقب دجل {كمثل دم قان يسيل إلى البحر}، أما مرثيتها الداخلية فقد كتبها خطيب جامع السلطانية في بغداد: شمس الدين الواعظ الكوفي الذي كان يسأل مدينته بغداد {فتكلمت لكن بغير لسان}.

ومنذ ما عرف بعصر النهضة، مروراً بعصر الاستقلال، لاحت أمام الشعر العربي آفاق التجديد والحداثة والتواصل مع الثقافات الأخرى. ويغطي {ديوان بغداد} اتجاهات القصيدة الحديثة في الكتابة عن بغداد، بتصورات جديدة وبلاغة أخرى. فبينما يقدم لنا الرصافي مرثيته لبغداد بعد الاحتلال البريطاني للعراق، بقصيدة نواح على لسان دجلة، يستهل الزهاوي قصيدته في السؤال عن هوية بغداد متفاعلا مع الإرهاصات التي سبقت صدور الدستور العثماني: أتعود بعد تصرم ونفاد/ أيام بغداد إلى بغداد؟

الاستقلال

اتسم عصر الاستقلال، مسبوقاً بعصر النهضة، بنشوء مفهوم جديد للاغتراب والهجرة، متجسداً في منفى الشعر العراقي في القرن العشرين الذي افتتحه شاعر بغدادي آخر هو عبد المحسن الكاظمي على اعتاب ذلك القرن، فعاش المنفى لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وجعل تجربته الشعرية مناجاة واستدعاء شجياً لأهله.

ومثلما كانت مصائر بغداد المتعددة مع الغزو والحروب الأهلية حافزاً للشعراء لاحتضان المدينة ومواساتها عبر العصور، كانت النكبات والكوارث الطبيعية الداخلية كالأوبئة والفيضانات/ والصراعات السياسية الداخلية محرضاً على تدوين رواية المدينة، فنقرأ قصيدة لنازك الملائكة عن فيضان بغداد أو رثاء مجازياً لسركون بولص لواحد من معالم المدينة وهو {سينما بغداد}،

كذلك لم يكن الشعراء البغداديون وحدهم من أسهموا في مقاربة صور بغداد المتعددة في مرايا التاريخ، منذ تأسيسها إلى يومنا. فدائما ثمة شعراء متبغددون دونوا صفحات أخرى من تلك المسيرة الملحمية للمدينة، من أحمد شوقي إلى الأخطل الصغير، أدونيس، أحمد عبد المعطي حجازي وعبد العزيز المقالح.

في المحصلة يتضمن {ديوان بغداد} أكثر من ثمانين شاعراً يتوزعون على ما يقارب 13 قرناً من عمر الزمان، ويتحدّرون من مواطن شتى، وأعراق مختلفة، انتقى مظلوم قصائدهم كبانوراما تحيط بتاريخ المدينة على تتابع القرون، وتمثل صورة روحية اجتماعية وسياسية عن تاريخ المدينة.