الذي حدثَ في العقود المتأخرة في حقلِ التطور العلمي أمرٌ يفوق التصور: من ارتيادِ جسم الإنسان وأسراره إلى ارتيادِ الفضاء وأسراره. قد ينتفع الفنُّ والأدب من ذلك، وبالضرورة سينتفع. ولكن عليه أن يحذرَ من محاكاته، والتنافس في مضاهاته، من أجل تحقيق تطورٍ يفوق التصور. والسببُ كامنٌ في أن وسائل وسبل هذا الفن والأدب تختلف في الجوهر عن وسائلِ وسبل العلم. ومهماتهما بالتالي أعمق اختلافاً. الإنسان يحتاج الطبيب، أو يحتاج معجزةَ الإنترنت، أكثر مما يحتاج قصيدتي، أنا الشاعر. وحاجتُه هذه ذات سمة عملية، عاجلة ومُلحّة. حاجتُه لقصيدتي لا تتمتع بكل هذه السمات. إنها ليست عملية، بل روحية. وليست عاجلة أو ملحة، بل بطيئة ويمكن تأجيلها. بل يُفضّل تأجيلها، لأنها تحتاج إلى زمن للتأمل، لن يتوفر عليه الإنسان إلا في أحيان. وإذا كان زمن العلم متسارعاً باتجاه المستقبل، فإن الفن والأدب يفضّلان الزمن بطيئاً، وباتجاه الماضي. وليس غريباً أن كل اندفاعات الفن والأدب التي استمْرأت الاستجابة إلى إملاءات العصر، والغرق في حمّى المستقبل، تمتعت بصفة «الطليعية»، لكنها كانت عابرة، وسريعة الزوال (خذ «المستقبلية» و»الدادائية» و»رواية تيار الوعي»، على سبيل المثال). في حين يحتفظ لنا تاريخ الفن والأدب بروائع الفنانين والأدباء الذين كان حاضرهم خطوة مُعززة بخطوات الموروث.

Ad

اليوم نجد هذا الفن وهذا الأدب يتخذ سبيلين للتعامل مع التقدم المذهل للعلم: الأول ينتفع منه، لأنه يُلقي مزيداً من الضوء على أسرار الكائن، والحياةِ وأسرار الكون. ولكنه يعرف بعمق أن مضاهاته مستحيلة، واستعارة أدواته وسبله عمل عابث. والثاني يدخل أفقه ليحاكيه، ويضاهيه ويزعم أنه مرآته التي تعكس سحر الحاضر والمستقبل. اليوم أجلس على كرسي ألمنيوم بارد، يُضاهي في التواءاته أنابيب ماكنة. وأدخل عمارة أسمنتية بالغة الجفاف والخشونة، تتناغم وملاجئ الحرب الذرية. وأزور متحفاً للفن، يقوم أمامي مقام مصافي النفط الضخمة.

حين ولد فن السينما كان صامتاً. ثم نطق وتلوّن، يوم انتفع من تقدم العلم. ولكن مخرجاً كبيراً كالسويدي بيرغمان، والياباني كيراساوا، والإيطاليين فلليني وأنتونيوني... الخ، لم يتركوا منجزات العلم تحتل فن السينما، وتلغي سماته الجوهرية. جاء مخرجون آخرون فسمحوا بذلك. احتلت قدرات الكمبيوتر عناصر الفن السينمائي، وصار أحدنا يعجب ويدهش وهو يتأمل تلك القدرات (والعُجب والاندهاش عادة ما يُعتادا ويفقدا إغواءهما مع الأيام). لقد أوجدوا فناً جديداً، لا شأن له بفن السينما. ولهم الحق في أن يحتفوا بذلك، فنحن نحتاج دائماً إلى فن جديد. ولكن لا حق لهم في أن يعتبروا فنهم هذا البديل الضروري لفن السينما.

حدث الأمر ذاته مع الفن التشكيلي، حين احتلّت تقنيات عصر الحداثة عالم اللوحة، الذي يعرفه الإنسان منذ نشأ. سطح يُنشئ عليه الإنسان رؤاه البصرية باللون والخط. «الفن المفاهيمي» عمل إبداعي جديد ومثير، ولكن لا شأن له بالفن التشكيلي. ولا يحق للفنان المفاهيمي أن يفرضه كفن بديل عن اللوحة التشكيلية. وكذلك فن «الفيديو»... وما الفنون المبتكرة الجديدة.

لا أعتقد أن الحكاية تختلف في حقل الأدب. فنحن كتّاب الأدب أحرار في ابتكار فنون للكتابة غير محدودة. ولكنا لسنا أحراراً في فرض ما نبتكره، باسم العصر، باعتباره بديلاً وحيداً، لا يستطيع أن يورق إلا على قبر فن آخر سبقه. وهذا ما يحاول كتّاب «قصيدة النثر» فرضه عبثاً.

حين ابتكر العرب فن «المقامة» لم يروها بديلاً عن القصيدة، ولا عن نثر الناثرين، بل هي فن مستقل بذاته. «قصيدة النثر» هي الأخرى فن قائم بذاته. إنها ضرب من الكتابة الخيالية لا تقوم مقام فن آخر. وهي بذلك لا تنتسب لفن الشعر ولا لفن النثر. والذين يرونها بديلاً لا خيار فيه يغفلون أنهم يحاكون، عن غير وعي، إنسان العقيدة الذي لا يستطيع أن يرى فكرته إلا باعتبارها البديل الصائب عن كل الأفكار الخاطئة. إنه لا يستطيع أن يتخيل خلاف ما يعتقد. ويغفلون أيضاً أنهم ينحنون لمؤثرات العصر الحديث التي أضعفت، ولعوامل قاهرة، حساسية الأذن الموسيقية.