(1) فراق رغم الحب

Ad

كان صديقي منذ أن كان وكيلاً للنائب العام، كنا نتقابل يومياً في نادي القضاة... ساعة... ساعتان... ربما أكثر أو أقل لكنه كان وقتاً ممتعاً نتطرق فيه إلى الحديث عن أمور الحياة كافة، خصوصاً التحقيقات الجنائية التي كان يتولاها والتحقيقات الصحافية التي أنشرها. لكن الأيام فرقت بيننا حينما تم نقله إلى الصعيد فتولى الهاتف دور الوسيط بيننا. ثم عشت الحياة من جديد وانشغل كل منا بحياته ومهنته والتفاصيل فصارت المكالمات بيننا موسمية. يبادرني هو بالاتصال في الأعياد... أو يصله صوتي للتهنئة في المناسبات الاجتماعية.

وبعد سنوات عاد حاتم إلى القاهرة قاضياً في محكمة الجنح، ثم رقي رئيساً للمحكمة وعادت الاتصالات بيننا تزداد من دون أن نتطرق أبداً إلى حياتنا الخاصة. دعاني حاتم إلى زيارته في بيته وحالت ظروفي في بلاط صاحبة الجلالة دون تلبية الدعوة مرات عدة، إلى أن أصر ذات ليلة على دعوتي إلى العشاء معه في منزله، ولم أتردد في القبول هذه المرة.

ما إن جلست في مقعدي في حجرة الصالون حتى لفتت انتباهي صورة كبيرة لامرأة يمكن لها أن تتحدى بجمالها كل نساء العالم... وأشهد أنها كانت ستكسب الرهان.

سألت حاتم:

• من صاحبة هذه الصورة الرائعة؟

وسألني في دهشة:

• ألا تعرفها...؟!

•• لا... أراها لأول مرة.

• إنها سناء. ألم أقص عليك حكايتها من قبل؟

•• لا. هذا الاسم أسمعه منك لأول مرة.

• هي زوجتي الأولى يا سيدي. عشنا معا أروع قصة حب تجمع بين عاشقين من عشاق الرومانسية... ثم افترقنا بعد الزواج.

•• شيء غريب يا حاتم. تقول جمعكما أروع حب ثم ببساطة تقول إنكما افترقتما بعد الزواج؟

• الحب يا صديقي مثل الطائر لا يحلق بعيداً إذا انكسر جناحاه... وسناء أصرت أن تكسر جناحي الحب يوم أصرت على ألا تنجب إلا بعد حصولها على الدكتوراه. ليس مهماً أنها تحدتني فربما كان باستطاعتي أن أصبر، لكنها تحدت أمي وهي امرأة عجوز هدها المرض وتمنت أن ترى حفيدها قبل أن ترحل عن عالمنا. لا أعرف لماذا عاندت سناء... ولا أعرف لماذا انتصر حبي لأمي على حبي لسناء فاحتد النقاش بيننا ذات ليلة... طاشت منها كلمات وزل لساني بأصعب مما قالت هي... وفي الصباح ذهبنا معاً إلى مكتب المأذون... وانفصلنا وكلانا يحبس دموعه.

فراق قسري

رأيت معالم التأثر على صديقي حاتم، أردت أن أعرف تفاصيل القصة حتى نهايتها، سألته:

•• وماذا حدث بعد ذلك؟!

•  بعد عامين من الطلاق فوجئت برسالة من سناء مع هدية رائعة في مناسبة عيد ميلادي. كانت الرسالة أول اتصال بيننا بعد الانفصال. قرأتها في لهفة... قالت في سطورها:

- «... اعترف يا حاتم أنني أخطأت في حقك حينما طلبت منك أن تطلقني. ربما كان طيش امرأة أو حسد أو سحر. لكنه لم يكن تصرفاً عاقلاً. سامحني... أعترف أنني كنت جاحدة ومغرورة، لكني الآن نادمة. بعادي عنك أكد لي أني أحبك. وعدم زواجك من أخرى أكد لي أنك ما زلت تحبني. لو لم يكن لديك مانع من أن نتكلم هاتفياً فاتصل بي وسوف تجدني أرد من أول رنة!».

سألت حاتم والدهشة لم تفارقني:

•• هل اتصلت بها؟!

• طبعاً... تحدثنا طويلاً... وضحكنا من أعماقنا حينما وعدتني بأن أكون أباً بعد تسعة أشهر بالتمام والكمال لو أعدتها إلى عصمتي! اتفقنا على موعد في أحد أندية مصر الجديدة لترتيب عودتنا إلى قفص الزوجية بعد خمسة أيام فقط... لكنها لم تحضر في الموعد المحدد!

•• وماذا فعلت؟!

• عدت إلى بيتي حزيناً. اتصلت بها فلم ترد... وفجأة سمعت طرقات على باب شقتي وكانت المفاجأة!

•• جاءت سناء إليك؟!

• لا... لم تكن هي. كانت صديقتها فريدة التي تعلم تفاصيل علاقتي بسناء. فجرت الخبر الحزين في وجهي قالت لي وهي ترتعش إنها كانت تزور سناء وعرفت منها أن بينها وبيني موعداً مهماً فنزلتا معاً... لكن سناء وهي تعبر الطريق نحو سيارتها بعد أن صافحت وودعت فريدة صدمتها سيارة مسرعة أمام عمارتها. ونقلوها إلى المستشفى في حالة سيئة... ولم يكن فوق لسانها سوى أن تذهب فريدة لتخبرني وتطلب مني زيارة سناء فوراً.

وخلال لحظات كنت داخل سيارتي وإلى جواري فريدة. دخلت على سناء في حجرة الإنعاش فابتسمت وهي مهشمة العظام. طلبت مني وهي تنطق بصعوبة أن أعلن أمام القاضي براءة سائق التاكسي لأنها كانت المخطئة بسبب سعادتها المفرطة وحرصها على أن تذهب للقائي قبل الموعد. طلبت مني وعداً بألا تحكم المحكمة ضد هذا السائق حتى تستريح في مثواها الأخير، ثم همست لي أنها وضعت لي صورتها التي أحبها داخل إطار كبير في شقتها التي كانت أعدتها لليلة زفافنا... وطلبت مني مجدداً أن تظل هذه الصورة في حجرة صالون شقتي كما هي... وفجأة... أغمضت عينيها وصعدت روحها إلى بارئها.

توقف حاتم عن الكلام برهة مسح خلالها دموعاً ترقرقت في عينيه... وبادرته أنا متسائلا:

•• لكنك في غاية الجرأة!!

• لماذا؟!

•• لأنك تضع صورة سناء في شقتك ولا تخشى من زوجتك الحالية!!

• هل تعلم أن زوجتي الحالية حزينة مثلي تماماً على سناء؟!

•• هل قصصت عليها حكايتك مع سناء؟!

• لا طبعاً... لأنها تعرف الحكاية من بدايتها. زوجتي الحالية يا صديقي هي فريدة.

(2) حكاية عفاف

كان أحمد منذ اللحظة الأولى التي دق قلبه فيها بحب عفاف يدرك أنها علاقة محكوم عليها بالإعدام،  لا شيء مشتركاً بينهما سوى مهنة الصحافة، وفيما عداها فالفوارق كبيرة وشاسعة تبدو فيها عفاف دائماً من سكان القمة بينما أحمد وحيداً في السفح. هي من أسرة أرستقراطية وهو من عائلة بسيطة مكافحة، تقود سيارة أحدث طراز بينما يحفظ أحمد أرقام الحافلات كافة، ملابسها وعطورها وأحذيتها من عواصم أوروبية شهيرة، وأحمد يشتري ملابسه من أشهر المحلات التي تقدم أرخص الأسعار.

كانت عفاف معروفة في الوسط الصحافي بشلة الأصدقاء والصديقات أبناء كبار المسؤولين والمشاهير والنجوم، وأحمد لا صديق له سوى موهبته الصحافية. هكذا كانت الفوارق كافة تباعد بين أحمد وعفاف. حتى انتماء كل منهما الرياضي كان مختلفاً، هي مفتونة بحب النادي «الأهلي» زيه الأحمر، وأحمد لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم إلا عن «الزمالك».

ظل أحمد يخفي هذا الحب الكبير بين أضلعه، لا يجرؤ على أن يصارح به حتى نفسه. ذات يوم فوجئ بعفاف على إحدى إشارات المرور تنادي عليه من داخل سيارتها، أصرّت أن يركب إلى جوارها وأن توصله حيث يريد... وفي الطريق ظل مرتبكاً لا تقوى عيناه على مواجهة النور الساطع من الصحافية الحسناء. كل شيء فيها كان ظالم الحسن والفتنة، بدءاً من شعرها الممزوج بلون الذهب وملمس الحرير، ومروراً بعينين تسكن فيهما زرقة البحر، وقوام ممشوق كنجمات هوليوود... ناهيك بالفستان الأحمر المثير، والحذاء من اللون نفسه فوق دعسة البنزين يتحرك برقة عصفور فوق غصن يتمايل على ضوء الفجر... سألته عفاف لحظتها عن سر شروده فإذا به يخاف من أن يصارحها بما يدور في أعماقه فجاءت ردوده بلهاء بلا معنى... عادت وسألته فجأة:

هل تعلم أن سبعة من زملائنا طلبوا يدي، ورفضتهم جميعا؟!

لا أعلم... لكن دون أن أعرف أسماءهم أؤكد أنهم على حق في ما طلبوا... وأنت أيضاً على حق في رفضك، فأنت أعظم من الزواج وأطهر من أن يكون جمالك ملكا لأحد الرجال.

صمتت عفاف... تأملته طويلاً... دق قلبه حتى كاد يقفز من صدره. انتابته لحظة خوف أراد أن يتغلب عليها ببعض الشجاعة... همس لها قائلاً:

هل لي أن أنصحك؟

أتمنى. قل نصيحتك ربما تساعدني في حيرتي.    

لا تتزوجي من شخص بهره جمالك ولحست عقله فتنة أنوثتك، تزوجي من الشخص الذي يكتشف عفاف الإنسانة.

دارت بها الدنيا، لكنها قبل أن تسترد توازنها سمعته يطلب منها أن توقف السيارة، فقد وصل إلى المكان المراد. اتفقا على موعد في اليوم نفسه من الأسبوع التالي، لكن لا عفاف ولا أحمد نفذا الاتفاق. نشرت كل الصحف بعد ثلاثة أيام خبر زواج عفاف من أحد كبار رجال الأعمال. وقالت إحدى المجلات إن العريس دفع أكبر مهر في عروس مصرية، 2 مليون جنيه وشقة على النيل وسيارة أحدث طراز! ومضت سنوات انقطعت فيها أخبار عفاف وانطلق أحمد بموهبته الصحافية من نجاح إلى نجاح من دون أن يشعر أحد بجبل الحزن الجاثم فوق قلبه منذ اختفت عفاف واختفت معها صديقتها هيام التي سافرت أيضاً إلى دبي واستقرت فيها مع زوجها.

ذكرى

 

بعد سنوات عاد اسم عفاف يقفز إلى الأضواء بعدما طلقها زوجها الملياردير وأصيبت بمرض خطير رفضت معه محاولات سفرها إلى الخارج، وعرف الجميع أن الاكتئاب منعها من مقابلة أي زائر مهما كان شأنه، وفجأة نشرت صحيفة الأهرام خبر رحيلها.

عاش أحمد أياماً مرعبة مع شريط الذكريات الذي كان يرجع إليه كلما ضاقت به الحياة... تذكرها يوم اتصلت به وسألته عن مقال {صاحبة الفستان الأحمر} وهل كانت هي المقصودة، فإذا به يتلعثم ويرتبك ويؤكد لها أن المقصودة كانت امرأة رآها بالمصادفة في حفلة زفاف صديق له! يومها أغلقت الخط في وجهه ثم اعتذرت له بعد ثلاثة أيام بحجة أن هاتفها كثيراً ما يتوقف بلا سبب.

أصبحت أجمل جميلات الصحافة المصرية ذكرى جميلة ممزوجة بالمرارة، حتى كان الأسبوع الماضي حينما سافر أحمد إلى الإسكندرية، وأخذته المصادفة إلى لقاء هيام التي تعرفت إليه بسهولة بينما ظل هو مرتبكاً للحظات يحاول أن يتذكر اسمها... وأين رآها، رحب بها أحمد بحرارة بعد أن تذكرها، وأصرت هي أن تدعوه إلى طعام الغداء ليسمع خبراً بمليون جنيه... وجلس يستمع إليها في لهفة... همست قائلة:

{تعرف يا أحمد أن عفاف الله يرحمها كانت تراسلني في أيامها الأخيرة. كان يصلني منها خطاب يومياً يحمل آخر أخبارها في حياة العزلة التي تعيشها، وكأنها كانت تكتب مذكراتها التي كانت تحمل أسراراً خطيرة! من هذه الأسرار بضعة سطور كتبتها لي عنك... وما زلت أحتفظ بهذا الخطاب في بيتي، لو تود أن أحضره لك غداً فليس عندي مانع}.

التقيا في اليوم التالي... التقط أحمد الخطاب وراحت يده ترتعش وقلبه يرتجف فور أن وقعت عيناه على سطور الخطاب المكتوبة بخط يد عفاف... وفوق السطور التي وضعت تحتها عفاف خطوطاً حمراء كتبت تقول:

- {... أعرف يا هيام أنه لم يبق من عمري سوى أيام أو ساعات... أو لحظات. أنتظر الموت في كل ثانية تمر... كنت أتمنى لو أنك كنت إلى جواري في مصر أو كان أحمد يعلم بعنواني... لا شيء يسعدني في عزلتي الآن سوى طيف أحمد ولقاءاتي القليلة معه. كل كلمة قالها لي أحمد أثبتت الأيام صحتها. خدعوني الذين انبهروا بجمالي. تخلوا عني فور علمهم أنني أعالج كيماوياً... يا ليتني اخترت الرجل الذي حاول اكتشاف عفاف الإنسانة في أعماقي.

لقد أحببت أحمد في صمت مثلما أحبني هو في صمت. كان عذري أنني امرأة ولا يمكن أن أبادر بإعلان حبي لرجل، وكان عذره أنه لا يملك القدرة على المواجهة لإحساسه بالفقر الذي تربص به، ونسى أنه يملك قلباً أغلى من كنوز الدنيا... الآن وأنا فوق سرير الموت أتمنى لقاءه. ولو حدث هذا اللقاء بشكل غير مقصود وصنعته المصادفة وحدها سأبادر بإعلان حبي له وأنني كنت لا أتمنى من الدنيا شيئاً الآن أكثر من أن أسمع منه هو بالذات كلمة {بحبك}... حتى لو كانت آخر كلمة أسمعها ثم أموت! لكن أين هو... وأين أنا؟!}.

تكهرب أحمد... شعر كأنه يصعق... حبس دموعه في عينيه. سأل هيام عن عنوان المقابر التي دفنت فيها عفاف... أسرع إلى المقابر، فتح له الحارس المقبرة، دخل يحرك قدميه بصعوبة، من دون أن يشعر جثا على ركبتيه، انهمرت دموعه كالمطر، نادى على عفاف، وراح يهمس بكلمات لم يسمعها غيره! ثم أرهف السمع كأنه يتلقى رداً.

هل كان يخبرها بالكلمة التي ماتت قبل أن تسمعها أم أنه كان يسمع منها عتاباً يتخيله؟ ربما كان المشهد نهاية باكية لقصة الحب الكبير... لكن أحمد حينما قابلني بعد سنوات فاجأني بأن لقائه الأخير بعفاف والذي لم يفصل بينهما فيه سوى شاهد قبرها كان بداية لحب جديد لا ترويه إلا الدموع.

سألته على الفور:

هل روايتك الأخيرة التي حققت نجاحاً مبهراً كانت ترمز إلى حكايتك مع عفاف؟

رد بلا تردد: نعم... وهذا ما فهمته زوجتي ودفعها إلى أن تذهب إلى المحكمة وتطلب الطلاق، وسوف تحصل عليه ولن أندم. هل تعرف لماذا يا صديقي؟ لأن عفاف تملأ حياتي حتى وهي تحت الأرض، غيرة زوجتي منها أحالت حياتي جحيماً، لكن الموتى لا يغارون.