هناك من صار ينظر إلى الآداب والفنون في الوطن العربي بوصفها كماليات وبطر ما عاد يصلح للحظة الإنسانية العربية المجنونة والممرورة، التي تحياها بعض الشعوب العربية! وعليه بات يصعب تماماً الحديث في الشأن الثقافي أو الفني الخالص بعيداً عن الحدث السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي الذي يجري على الأراضي العربية!

Ad

عشت وجيلي أمام مصطلح (الأراضي العربية المحتلة) حين كانت إسرائيل هي العدو الوحيد للشعوب العربية، وحين كان لدى الشعوب العربية حلمان: الأول تحرير كل التراب الفلسطيني وعودة القدس الشريف، والثاني إنشاء كيان عربي قومي يمتد من المحيط إلى الخليج. حلمان عشنا بهما عقوداً، وفي سبيل تحقيقهما ضحى الآلاف من شباب الأمة العربية بأرواحهم، وها نحن الآن، نقف أمام ضعفنا العربي وتمزق الشعب الفلسطيني في تحقيق الحلم الأول، واندحار واضمحلال الحلم الثاني، حتى غدا احتفاظ الوطن الواحد بوحدته حلم صعب المنال، لا يضاهيه حلم آخر!

مع بداية عام 2011، وانطلاق تظاهرات الشعوب العربية السلمية، في احتجاجها البشري العظيم على الأوضاع الدكتاتورية القائمة، وحين دخل القاموس البشري لفظ: ارحل، ببراءة اختراع للشعوب العربية، حينها، تنفس المواطن العربي أملاً، في قدرته على كسر هاجس الخوف والوقوف في وجه السلطة الغاشمة، وانتعش حلمٌ عصري مغاير بأن يولد من وجع وألم ولوعة العيش، وطن فيه الديمقراطية والحرية والعزة والكرامة ورغد العيش وشيء من العصرنة. وكنا ندرك تماماً أن ذلك لن يتحقق بين يوم وليلة، وأنه بحاجة الى وقت وجهد وتضحية. لكن لم يكن يدر في خلد أكثر المتشائمين وصول الأمور إلى ما وصلت إليه!

ما يحدث في سورية عصي على الفهم، وما يحصل في العراق، واليمن وليبيا وربما أوطان عربية أخرى، لكن إلى جانب كونه عصي على الفهم، فهو مدمر للنفس العربية في توحّشه وفي ألمه وفي حجم الخراب الذي وصل إليه، وبحر الدماء التي خلّفها ويخلّفها كل يوم. ويكفي أن يُشار عالمياً إلى ما يحدث في سورية على أنه "كارثة القرن الواحد والعشرين"، فلو قُدر للحرب السورية الطاحنة بين جميع الأطراف أن تتوقف في التو واللحظة، فإن إرجاع ما دمرته وحشية كل الأطراف، في البشر والحجر، لا يمكن إرجاعه أو إصلاحه بأي حال من الأحوال، حتى لو غدت الشام أفضل ديمقراطية في العالم!

من أين نبع جبل الكره والحقد والتخلّف والوحشية والعنصرية والطائفية واللاتسامح والقتل والدم في قلوبنا! "لا أستثني أحداً" أنظمة وجماعات! نعم كان المشهد متخلفاً ودكتاتورياً، وكان حكماً مطلقاً، ونعم، ونعم، وأنعام كثيرة. لكن المشهد العربي اليوم، وما يجري على أرضنا العربية الغالية غير قابل للاستيعاب، حتى ونحن نتابع تحاليل أكثر السياسيين معرفة وخبرة ولباقة. غير قابل للاستيعاب حين تصبح أراضينا الطيبة الخيّرة مرتعاً للقتلة المتوحشين من كل بقاع الأرض. مخيف ما يحصل اليوم في الوطن العربي، ومخيف أكثر منه، أن لا أمل يلوح في دهليز وظلمة اللحظة العابرة! ومرعب التفكير في مصير أبنائنا وأحفادنا.

العالم يعيش عصر ثورة المعلومات، ونحن نعيش عصر ثورة القتل!

العالم يعيش عصر مواقع الإنترنت، ونحن نعيش مواقع ونزالات الموت!

العالم يعيش عصر شبكات التواصل الاجتماعي، ونحن نعيش عصر شبكات الخطف والذبح!

العالم يعيش عصر "الآيباد"، ونحن نعيش عصر صرخة الآي الموجعة!

العالم يعيش لحظته الإنسانية بخيرها وشرها، ونحن نعيش لحظتنا الإنسانية بشرورها!

لا أدري كيف ينظر إلينا الآخر، ولكني أعرف أنني أنظر إلى الآخر بحسرة!

لا أدري ماذا يخبئ لنا الغد، لكني ما عدت كثير تفاؤل!