السادة المذيعون... وأخطاؤهم

نشر في 20-07-2014 | 00:01
آخر تحديث 20-07-2014 | 00:01
 ياسر عبد العزيز تقوم بعض وسائل الإعلام التي ينتمي إليها إعلاميون ارتكبوا أخطاء بتقديم اعتذار أحياناً، لكن الإعلامي المخطئ عادة ما يعود إلى ارتكاب الأخطاء ذاتها، وبشغف أكبر، والأخطر من ذلك أن أهمية المذيع المخطئ ورواج برنامجه وسعة انتشاره تزداد بوضوح كلما كان الخطأ الذي يرتكبه أكبر وأكثر فداحة، ومن دون محاسبة الإعلاميين المتجاوزين ستظل أخطاء الإعلام تتفاقم ولا عزاء للجمهور ولمهنة الإعلام.

يثور في مصر جدل ساخن الآن على خلفية بعض الممارسات الإعلامية الحادة، التي بدأت تأخذ منحى خطيراً، في ظل تزايد تأثيرها في الرأي العام المضطرب والهش في الأساس.

يقف وراء معظم تلك الممارسات الحادة مذيعون ومذيعات من النجوم الأكثر شهرة وانتشاراً وتمتعاً بالدخول الكبيرة، ويبدو أن ثمة علاقة طردية بين الممارسة الحادة من جانب والرواج و«النجاح» من جانب آخر؛ وهو الأمر الذي ينذر بكثير من المخاطر على صناعة الإعلام والرأي العام في آن.

لا يوجد مجتمع لا يعاني ممارسات إعلامية حادة يرتكبها بعض النجوم تحديداً، حيث تحدث تلك الممارسات في معظم الدول، سواء كانت متقدمة أو نامية.

سيمكننا استخلاص العبر من بعض الوقائع التي حدثت في نظم إعلامية مختلفة في ما يخص تجاوزات الإعلاميين تحديداً، كما سيكون من المهم جداً معرفة كيفية تصرف وسائل الإعلام والمجتمعات التي ينتمون إليها معهم في حال وقوعهم في الخطأ.

من أبرز تلك الوقائع على سبيل المثال، واقعة جرت في شهر أكتوبر من عام 2010، حين أصدرت شبكة «سي إن إن» بياناً نادراً من نوعه، قالت فيه إن مقدم البرامج الشهير «ريك سانشيز» لم يعد يعمل معها، وشكرته على السنوات التي أمضاها في خدمتها، كما تمنت له الخير، بعدما كان أحد أبرز نجومها، ومذيعاً بارزاً لواحد من أهم البرامج على شاشتها.

كان «سانشيز» قد أدلى بتصريحات فُهم منها أنه يجرح مشاعر المواطنين اليهود؛ وهو أمر استدعى الكثير من الانتقادات له وللمحطة، استناداً إلى أن حرية التعبير التي يكرسها التعديل الأول في الدستور الأميركي لا تعني أبداً «تجريح الجماعات العرقية والدينية والطعن في أخلاق أعضائها بسبب ما يعتقدونه».

قبل هذه الواقعة الشهيرة بثلاث سنوات، أعلنت شبكة «إم إس إن بي سي» الأميركية الشهيرة قطع علاقتها مع الإذاعي البارز «دون إيموس»، كما أوقفت بث برنامجه اليومي «إيموس في الصباح»، بسبب ما قالت إنه «تورطه في تصريحات عنصرية».

حدثت هذه الواقعة في شهر سبتمبر من عام 2007، حيث كان «إيموس» يمارس هوايته في النيل من الأقليات مثل السود، والعرب، والمسلمين بتصريحات عنصرية تحط من شأن أعضاء تلك الجماعات، وتثير الكراهية ضدهم.

لكن الشبكة التي يعمل بها هذا الإعلامي لم تتحمل تلك الممارسات، خصوصاً أنها سبق أن تلقت الكثير من الشكاوى من منظمات ومواطنين تطالب بالتحقيق مع هذا المذيع المثير للجدل، والعمل على إيقاف تجاوزاته؛ وهو الأمر الذي حمل الشبكة على الاعتذار عن «إساءات» تورط بها «إيموس» في عام 2004 ضد الأقلية المسلمة في البلاد.

يذكرنا هذا بقصة المذيعة تاتيانا ليمانوفا، التي كانت تقرأ النشرة، في إحدى القنوات الروسية، حينما ورد اسم الرئيس الأميركي باراك أوباما في معرض أحد الأخبار، وعندها عبرت ليمانوفا عن موقفها منه على الفور، عبر رفع إصبعها الأوسط في حركة ذات دلالة لا تخفى على أحد. لقد استغنت المحطة عن خدمات ليمانوفا، رغم أنها ربما تشاركها الشعور السيئ ذاته حيال أوباما.

الحركة التي أتت بها ليمانوفا غير مقبولة بالطبع، لكنها على أي حال أقل سوءاً مما فعلته إحدى المذيعات اللبنانيات، التي كانت تقرأ خبراً في نشرة تقدمها قناة لبنانية مسيسة، حين وصلت إلى معلومة مقتل أحد أعضاء تيار «14 آذار»، فما كان منها إلا أن تهكمت على مقتله، قائلة «العوض بسلامته»، بل زادت متمنية مقتل سياسي آخر من الفصيل ذاته، حين شجعت القتلة بقولها: «هلأ باقي أحمد فتفت». لقد طردت القناة اللبنانية المذيعة المتورطة في هذا الخطأ فوراً، كبادرة تظهر تفهمها لعمق الخطأ واحترامها للقانون وقيم العمل الصحافي في آن.

التشفي في مقتل شخص ما، أياً كانت مواقفه، فضلاً عن التمني أو التحريض على تصفية سياسيين آخرين أمر بالغ الخطورة، ويكاد يندرج في خانة الجرائم التي تعاقب عليها القوانين في معظم بلدان العالم.

لكن ذلك التشفي، وهذا التحريض الواضح، سيبدوان أهون مما فعلته المذيعة الليبية هالة المصراتي، التي حاولت أن تعبر عن دعمها للعقيد معمر القذافي، قبل أن ينجح «الثوار» في إسقاطه، فلم تجد وسيلة أفضل من رفع مسدس في وجوه المشاهدين، مهددة بقتل كل من يتجرأ على «القائد الضرورة». لقد قتل القذافي، وسكتت القناة التي تعمل بها مصراتي، كما تم اعتقالها لاحقاً، وهي مطاردة الآن، ولم تعد تمارس عملاً إعلامياً.

تشير الوقائع السابقة إلى جملة من الحقائق؛ أولاها أن المذيعين، مهما كانوا نجوماً، يرتكبون الأخطاء في معظم دول العالم، وفي أفضل النظم الإعلامية، وثانيتها أن معظم تلك الأخطاء ينطلق من خلط الإعلامي بين الرأي والخبر، أو بين موقفه وبين ما يجب أن يقوله للجمهور، أو بين دوره كناقل للأخبار والأحداث، وميسر للنقاش العام إزاءها، وبين كونه زعيماً سياسياً أو مفكراً أو قاضياً أو محتكراً للحقيقة.

تشير تلك الوقائع أيضاً إلى أن معظم هذه الأخطاء ينطوي على جرائم، وأن حرص بعض المجتمعات على عدم المساس بحرية الرأي والتعبير يؤدي إلى عدم توقيع عقوبات قضائية بحق هؤلاء الإعلاميين في بعض تلك الوقائع.

لكن ما لا يمكن تجاهله في معظم هذه الوقائع، إن لم يكن كلها، أن وسائل الإعلام التي يعمل بها هؤلاء الإعلاميون أوقفتهم عن العمل، أو طردتهم من الخدمة... وما يحدث في مصر يبدو عكس ذلك تماماً.

قبل أيام قليلة خرجت مذيعة في إحدى القنوات المصرية وراحت تكيل الانتقادات الحادة للمغرب الشقيق، ولفقت بعض التقارير من أجل التوصل إلى ادعاءات مسيئة بحق هذا البلد الأصيل شعباً ودولة، بشكل ينال من سمعته، ويحط من شأنه.

وفي شهر يوليو الماضي، كانت إحدى المذيعات المصريات تتلقى تقريراً من زميل لها عن حالات تحرش جنسي أثناء وقائع احتفال في ميدان التحرير، فما كان منها إلا أن علقت قائلة: «مبسوطين بقى».

لقد تورطت المذيعة الأولى في مخالفة صارخة تتعلق بإهانة شعب دولة شقيقة، في حين تورطت المذيعة الثانية في مخالفة أخرى تتعلق باستحسان الجريمة أو تبريرها، كما عكست وعياً بائساً بحقوق المرأة وكرامتها.

تأتي هاتان المخالفتان في ذروة سلسلة من المخالفات المريعة التي تحفل بها أقنية الإعلام المصرية؛ ومنها إذاعة مكالمات هاتفية خاصة بغرض الحط من شأن شخصيات سياسية بعينها، وتوجيه الشتائم لجماعات وشخصيات على الهواء مباشرة، واستخدام أحد المذيعين الحذاء في توجيه تهديد لخصومه السياسيين، وقيام آخر بتوجيه الشتائم للجمهور ووصفه بأنه «خانع وأبله ومفرط في حقه»، فضلاً عن التسبب في أزمات دبلوماسية مع بعض الدول، عبر إهانة السفراء والشخصيات القيادية، وطرد بعض الضيوف على الهواء، وغيرها من المخالفات غير المسبوقة في تاريخ العمل الإعلامي.

لكن الرابط في كل المخالفات التي يرتكبها الإعلاميون المصريون في هذه الممارسة الحادة والهوجاء هو الاستمرار والتصاعد من جهة، وعدم إيقاف الإعلامي المخطئ عن العمل من جهة أخرى.

تقوم بعض وسائل الإعلام التي ينتمي إليها إعلاميون ارتكبوا تلك الأخطاء بتقديم اعتذار أحياناً، لكن الإعلامي المخطئ عادة ما يعود إلى ارتكاب الأخطاء ذاتها، وبشغف أكبر، والأخطر من ذلك أن أهمية المذيع المخطئ ورواج برنامجه وسعة انتشاره تزداد بوضوح كلما كان الخطأ الذي يرتكبه أكبر وأكثر فداحة.

من دون محاسبة الإعلاميين المتجاوزين، ستظل أخطاء الإعلام تتفاقم، ولا عزاء للجمهور، ولمهنة الإعلام.

* كاتب مصري

back to top