القصيدة النثرية هنا، عالمٌ مليء بالبدايات لا يمكنها أبداً، أن تشي بنهاياتها، الشاعر يندب حظه الذي هو في كثير من الأحيان، موته، على هامش عصر يَحفل، ويحتفل، بالخُطب والخطباء، وهما من أكبر أعداء الشعر في العصور كافة، فتبدو قصيدة النثر، كأنَّها تنعي مآلها، بحيث تقف القصائد، في مثل هذه الحالة، كشاهد قبر، يقول:

Ad

«معهم وراء النَّعشِ، معهم ولستُ معهم...،

مسروراً بلحن، لا يخرج من قدمي

 إلا وأنا أخطو خلف الموتى».

تتوزَّع قصائد ديوان «الموتى يقفزون من النافذة» إلى ستة عناوين كبيرة، هي: «طُعْم لاصطياد الرُّوح، ليلةٌ في عروق أخرى، رَفْرَفة العصافير، رموز في سَلَّة الخضار، جنازة هادئة، كأي ميِّت»، تنتظم تحتها 26 قصيدة قصيرة، تنعي موتى كثيرين وتصف لحظات فراقهم، بلغة شعرية صافية، لا تخلو من خشونة العالم ومفارقاته.

شريك في جنازة

يتحول شاعر قصيدة النثر هنا إلى شريك في جنازة، ويحوِّل قراءه إلى مُعزِّين، نظراً إلى حجم الموت، الذي بات يتجول على الأرض بحريَّة، منذ المقطع الأول، «عيدالحب»، حيث يلتقي الشاعر، في هذا العيد، قاتلاً، كادَ يخسر صيته، حين انطلقت فراشة من فوَّهة بندقيته بدلاً من رصاصة.

 وفي قصيدة أخرى، يحكي قصة عازف صعقه التيار الكهربائي، وفي قصيدة ثالثة ينعي ساق صديقه، «الشاعر والباحث الراحل كرم الأبنودي»، التي قطعها الطبيب، كمأساة معقولة لرجل ربط حياته بـ «فن الحزن»، وهو فن «العدودة»، بعدما «جرَّدها الطبيب من اللحم والعظم، وترك دمها يجري في بالوعة المستشفى».

هنا القصيدة عملٌ جنائزي صاخب، من أول السطور إلى آخرها، الشاعر يمشي في طريق ذي اتجاه واحد، في وداع راحلين، بعدما اتخذ قراراً نهائياً بالتخلص من عذاباتهم، التي تفيض شاعريتها على النصوص، بدءاً من الأم، التي «تحرِّض الموتى على العالم»، في «الإهداء»، وصولاً إلى القصيدة الأخيرة، «كأيِّ ميت»، التي يُعلن بها الشاعر نهايةَ حيوات كثيرة مُعتمة، شغلتْ تناقضاتها مَتن الديوان.

«أريد أن أحكي لأي مخلوق

عن موتى يقفزون من النافذة

ويشبكون سواعدهم وسيقانهم حول جسدي».

لا أريد أن أقول، إن فتحي عبدالسميع، يكتب القاع كمرآة، على العكس، بل يعيد ترتيب العالم من جديد، بتذكر لحظات ميتة، مُستدلاً بالقدماء، الذين خلدوا الموت في الذاكرة المصرية، منذ عهد الفراعنة، بالدين مرة، وبالفن مرات، مرتكزاً إلى تراثه كواحد من أبناء الصعيد «محافظة قنا»، التي يحمل تراثها الشفهي، لوناً خاصاً من الشعر الجنائزي، المعروف في الثقافة الشعبية باسم «العَدودة»، مدركاً كشاعر مُغامر، كيف يقترف الموتُ عالماً شعرياً بامتياز، يُمكنه أن يكون دالاً على هذا الحاضر المعتم:

« أُريد أن أحدِّث أصدقائي،

عن شيخوخة لا تصنعُها السنوات

أريد أن أحدِّثهم

عن وقع أقدامٍ عسكريَّة

أسمعها كلما انتهيتُ من ضحكة».

موت الآخرين

يُمسك فتحي بالخيطِ نفسه، الذي رسم به أجداده الشعراء، وأقربهم إليه تجربة، الشاعر المصري الراحل، «أمل دنقل»، الذي كتب موته في ديوان صاف «أوراق الغرفة 8»، أقول، إن شاعر قصيدة النثر، يعزف لغته الخاصة، مرتبطاً بقاموس لغوي ودلالي يخصُّه، ملتقطاً لحظاته الشعرية من العالم، من الحقول والبيوت والزراعات، ما يجعل تقنياته الشعرية تميل إلى البساطة، التي تختصرُ كثيراً من حيل بعض الشعراء وشعوذاتهم.

فتحي يكتب، إذن، موت الآخرين، بحثاً، ربما، عن مصيره هو، يكتب عن قبيلة نكرهها، فقط، لأنها قبيلة أخرى، عن رجل حين احتضر باتَ يبكي بلعابه بدلاً من الدموع، وعن شاعر فقد ساقه اليمنى واضطر لدفنها بمفردها، يحكي لكم عن «عازف الناي» الذي سقط خده إلى جواره من كثرة النفخ، وعن «بهجة».. «لم تعد تجمعنا بها .. إلاّ الجنازات».

الشاعر لا يكتفي بالتطلع إلى العالم، بل يمنح صوتَه أحياناً إلى «منديل ورقي»، لا يلبث إلا أن يلقى هو الآخر، مصير أغلب بشر الديوان ويموت محترقاً بسيجارة صاحبه:

«شفافٌ ورقيق

وأينما جرحتني

وجدتَ لحمي أبيض

يدي قوية مع الآخرين

ولا حول لها

حين أمدّها إلى نفسي».

أغلب الظن، أن الشاعر اختار أن يروي تفاصيل العالم بلسان منديل ورقي مهزوم، استدعاء للرد على مقولة خرجت أواخر التسعينيات، تقول إن قصائد شعراء النثر المصريين «مناديل ورقية»، سرعان ما تتلف فور قراءتها، وهو ما يثبت خطأه مجدداً ديوان «موتى يقفزون من النافذة»، وقصيدة «منديل ورقي» بالتحديد.

تجربة الألم العربي

ليست صدفةً إذن، أن يتورَّط شاعرنا، في الحياة وقضاياها الكبرى، وهو صاحب ديوان «تقطيبة المُحارب»، حيث روى من وجهة نظره، تجربة الألم العربي بعد الحرب الأميركية التي مزَّقت العراق ولا تزال، كما أن فتحي عَمل لسنوات موظفاً في إحدى المحاكم بالصعيد، رأى خلالها كثيراً من الممرات المعتمة والقتلة والجرائم، التي لا يُمكن للشعر أن يغضَّ البصر عنها.

شعر فتحي عرف طريقه إلى لغات أخرى، فقد تُرجمت بعض نصوصه إلى الإنكليزية والفرنسية، كما تُرجم بعضها إلى الألمانية، وسبق أن تولى عام 2009، منصب الأمين العام لمؤتمر أدباء مصر.

يُذكر أنَّ الديوان هو السادس لصاحبه، بعد «الخيط في يدي» (1997)، «تقطيبة المحارب» (1999)، «خازنة الماء»، (2002)، «فراشة في الدُّخان» (2008)، و{تمثال رملي» (2012).