لا نقاش في أن خطوة إزاحة نوري المالكي عن موقعه (السابق) كرئيس للوزراء، واختيار حيدر العبادي خلفاً له، تشكل تحولاً كبيراً في الاتجاه الصحيح بالنسبة إلى الأزمة العراقية المستعصية، التي يحتاج حلها الحل المقبول إلى ألف خطوة كهذه الخطوة التي لا يمكن الاطمئنان إليها إلاَّ بعد مباركة مُعلنة وصريحة من قائد فيلق القدس الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، الذي يعد اللاعب الأكثر تأثيراً في المساومات المستمرة بين أطراف المعادلة السياسية العراقية.

Ad

ربما ينجح رئيس الوزراء المكلف حيدر العبادي في هذه المهمة الصعبة، وخاصة أن تكليفه من الرجل الهادئ والطيب الرئيس محمود فؤاد معصوم حظي بتأييد عراقي يقترب من الإجماع، وبتأييد دولي في مقدمته الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والعديد من دول العالم الفاعلة والمؤثرة، إضافة إلى بعض الدول العربية.

لكن، مع هذا كله، ومع أن الأميركيين لعبوا مع "داعش" لعبة عسكرية لاتزال قاصرة وغير جدية، فإنه لا يمكن الاطمئنان إلى استقرار العراق وهدوئه وتماسكه إلاَّ بكفِّ الإيرانيين شرّهم عنه وخروجهم الاستخباري والعسكري منه، ووضع حدٍّ لتدخلهم السافر في شؤونه الداخلية، وإلاَّ بالتخلص من صيغة "المحاصصة" التي فرضها المندوب السامي الأميركي بول بريمر على هذا البلد في ظل اهتزاز المعادلات السياسية، بينما كانت اهتمامات المعارضين، الذين عادوا على ظهور الدبابات الأميركية، تنصبّ على تقاسُم كعكة الحكم أكثر من اهتمامهم بمستقبل بلدهم وشعبهم.

إنَّ كل هذه المسيرة العسيرة التي بقي العراق يعاني منها منذ عام 2003 سببها "المحاصصة" الطائفية والمذهبية التي فرضها بريمر فرضاً، والتي كان عنوانها أن يكون هناك منتصر ومهزوم، وأن المنتصر هُمْ الذين بقوا يتقاسمون كعكة الحكم على مدى نحو أحد عشر عاماً، وإلى أن أظهر نوري المالكي نزعته الاستبدادية الجامحة، وفعل ما فعل، في حين أن المهزوم هم السنَّةُ العرب الذين جرى التعامل معهم على أنهم حاضنة نظام صدام حسين، وعلى أنهم "أقلية"! يجب تهميشها في الجيش والأمن وفي كل مواقع الدولة ومؤسساتها السيادية وغير السيادية.

لقد كان خطأ الذين ثبت أنهم عادوا إلى العراق بعد رحلة منافٍ طويلة مريحة، لا ليعيدوا بناء بلدهم، وإنما ليتقاسموا الغنائم على أساس "محاصصة" بريمر البائسة والكئيبة، أنهم لم يستفيدوا من التجربة اللبنانية، وربما لم يسمع بعضهم بها ولا يعرف عنها شيئاً، إذ إن أسلوب المحاصصة الذي فرضه المستعمرون الفرنسيون بقي يشكل قنبلة موقوتة في هذا البلد الجميل منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى الآن، ويجعل الخيار - كلما طرأ أي اهتزاز على هذه المعادلة الداخلية - هو الاحتكام إلى السلاح والذهاب إلى الحروب الأهلية المتلاحقة، وأسوأها حرب عام 1976 التي إذا أردنا الحقيقة فإنها لاتزال مستمرة حتى الآن، وخاصة بالنسبة إلى ما يسميه اللبنانيون: "الأمن المستعار"!!

وهكذا فإنه لا خلاص للعراق من هذه المأساة التي ازداد غرقه فيها بالفترة الأخيرة إلاَّ بالتخلص من نظام المحاصصة، والعودة إلى النظام الوطني الديمقراطي الذي يفتح الأفق واسعاً أمام الكفاءات الوطنية، بغضّ النظر عن انتماءاتها الطائفية والمذهبية والإثنية، والذي ليس في الإمكان - بغيره - إعادة هذا البلد العظيم إلى وضعية الدولة الواحدة المتماسكة التي من المفترض أن تشكل "اللامركزية" فيها العامل الأساسي للوحدة الوطنية، وليس الطريق إلى كل هذا التشظي الذي نراه الآن، والذي ربما يحتاج التخلص منه إلى سنوات طويلة.