مسألة يجب النظر إليها بجدية وهي: هل الإعلام الحكومي (الرسمي) لا يزال قادراً على القيام بالدور المطلوب منه؟ وهل بإمكانه خدمة "أولياء نعمته" في زمن "الخصخصة" هذا، حيث إنَّ العالم المتقدم فعلاً، إنْ ليس بكل دوله فبأغلبها، تخلى عن ظاهرة "الأبواق" هذه، بعد أن ثبت أنها لم تعد مجدية، وأن ثقة الناس بها قد انتهت وأصبحت مفقودة، وأنها باتت تشكل أعباءً مالية طائلة بالإمكان الاستفادة منها في مجالات ضرورية أخرى؟!

Ad

إننا ونحن نتحدث عن هذه المسألة الآن، فكأننا في الحقيقة والواقع نتحدث عن مريض بات يعاني سكرات الموت، وأنه غدا في الرمق الأخير، وكأننا نتحدث أيضاً عن جديد أصبح يفرض نفسه حتى على الحكومات، التي لا تزال ترفض الخروج من الكهوف الرطبة والمظلمة، بقوة التغيير المترتب على كل هذه التحولات الجذرية التاريخية... ولهذا فإنه على المعاندين المستمرين في التمسك بموروث تجاوزته حركة الزمن أن يتخلوا عن عنادهم وأن يقروا ويعترفوا بأنه لم يعد هناك مستقبل ولا بقاء للإعلام الذي عايشناه وعشنا معه سنوات طويلة والذي عاشه وعايشه الذين سبقونا، وربما كان مجدياً في ذلك الزمن "البعيد" على أساس أنه لعب دور شاعر القبيلة.

وبتجنب المناكفة والإصرار على الخطأ والتشبث بماضٍ بات أطلالاً لا تقي من قرٍّ ولا تحمي من حرٍّ فإنه بالإمكان أن نتفق ويجب أن نتفق على أن الإعلام الحكومي (الرسمي)، بأساليبه وبرسالته القديمة الكئيبة والمملة والمكررة وبمحتواه وبطريقته التي لم تعد ملائمة لهذا العصر، لم يعد قادراً حتى على خدمة الذين يقفون خلفه منْ أنظمة وحكومات في ظل كل هذا الانفجار "الإلكتروني"، وفي ظل هذه الثورة الإعلامية فإنه غدا قاصراً عن إيصال وجهة نظر هذه الأنظمة والحكومات إلى المتلقين المعنيين، كما بات موئلاً للبطالة المقنعة وأصبح يشكل عبئاً ثقيلاً على أصحابه بعدما أصبح "الروموت كنترول" وسيلة سهلة للهروب منه والبحث عن البديل الموثوق والمحايد أو شبه المحايد الذي يركز على الحقائق ويبتعد بقدر الإمكان عن الترويج الممل غير المؤثر على الإطلاق.

ولعل ما يجب الإشارة إليه أن وسائل الإعلام الحكومية في معظم الدول العربية تعيش الآن بطالة مقنعة وأنه تنطبق عليها الحكمة القائلة بأن "الازدحام يعوق الحركة" وأنه عندما يكون في مبنى "ماسبيرو"، الذي يضم التلفزيون المصري والإذاعات الرسمية، نحو سبعين ألفاً، كما يقال، فهذا يعني أن هناك حمولة زائدة جداً وأن غالبية هذه الأعداد بلا أيِّ عمل، وهنا فإنني أؤكد وبالتجربة ومن موقع المسؤولية أن أجهزتنا الإعلامية الرسمية المقروءة والمسموعة والمرئية تعاني حالياً هذه الظاهرة التي إنْ كانت جائزة في مراحل سابقة فإنها لم تعد جائزة بعد ثورة تقنية المعلومات وبعد غروب شمس الأنظمة الشمولية والرجعية والانقلابية!

وفي هذا المجال فإنه يمكن الاتفاق أيضاً على أنَّ التضخم السرطاني للإعلام الرسمي (الحكومي)، المرئي والمسموع والمقروء، وعلى هذا النحو بات يشكل عبئاً كبيراً وثقيلاً على الموازنات الإعلامية حتى في الدول المقتدرة، وحقيقة فإن هناك إجماعاً أو شبه إجماع حتى لدى أصحاب القرار في معظم دولنا العربية على أن الإعلام الحكومي هو تبديد للثروة، وأنه غدا يشكل عبئاً ثقيلاً على الكفاءات الإعلامية، وبات يحول دون تطورها وجعلها تواكب مسيرة الإعلام الناجح وبخاصة بالنسبة للمحتوى والرسائل الرسمية التي تحاول الحكومات إيصالها إلى جماهيرها التي لم تعد غفورة.

ثم إنَّ ما تجب الإشارة إليه أيضاً هو أن إعلاميي الإعلام الرسمي، المسموع والمرئي والمقروء، في دولنا العربية يشعرون الآن، ومعهم الحق كله، أنهم مقارنة بزملائهم في الإعلام الخاص والهجين (hybrid) مازالوا يعيشون في قرون سابقة، فهم رغم التقنيات المتقدمة التي تمتلكها الأجهزة الإعلامية الحكومية التي يعملون فيها إلا أنهم في حقيقة الأمر لا يستطيعون منافسة هؤلاء الزملاء، لأنهم يعملون في مساحات فكرية وسياسية محددة ممنوع عليهم تجاوزها، ولأنهم يزاولون مهنتهم تحت سقوف ليس بإمكانهم اختراقها... وهكذا فإنه يمكن القول بأنَّ الإعلام الحكومي أصبح في نهاية مسيرته التاريخية - والمشكلة هنا ليست في التقنيات ولا في كفاءات العاملين بل في الحريات، الممنوحة لهؤلاء- التي لا تزال تقف عند منتصف الألفية الثانية، بينما حركة التاريخ قد تجاوزت العقد الأول من الألفية الثالثة.