في شهر يوليو من عام 2004، قرر المجلس الأعلى للإعلام المسموع والمرئي في فرنسا تقديم طلب إلى "مجلس الدولة" لإيقاف بث قناة "المنار" على الأقمار الاصطناعية الأوروبية داخل البلاد؛ وهو الأمر الذي حدث بالفعل في غضون العام نفسه، بعدما اتهمت سلطات الإعلام الفرنسية القناة بأنها "تبث محتوى لا يمكن احتماله".

Ad

كانت قناة "المنار" في هذا الوقت تذيع مسلسلاً عربياً رأت السلطات الفرنسية أنه "معاد للسامية"، إضافة إلى جملة أخرى من البرامج والممارسات، التي اعتبرت تلك السلطات أنها "مسيئة ومحرضة على الكراهية".

وبعيداً عن التقييم السياسي لما تقدمه قناة "المنار" من جهة، أو الموقف السياسي الفرنسي من قضية الشرق الأوسط وأطرافها من جهة أخرى؛ فإن ما يهمنا من هذه القصة تحديداً هو ما يتعلق بالنظام العام في فرنسا؛ وقدرته على الدفاع عن حرية الرأي والتعبير وصيانتها، ثم التدخل بوسائل قانونية وتنظيمية لإيقاف ممارسات غير مقبولة من جانبه إذا استدعت الحاجة.

ثمة قصة أخرى يمكن أن توضح تلك الآلية في العمل؛ وهي قصة تتعلق بفرنسا أيضاً.

ففي عام 2010، اتصلت سلطات المجلس الأعلى للإعلام المسموع والمرئي برئيس شركة "نايل سات" المصرية، وهي الشركة التي تمتلك وتدير القمر الاصطناعي المصري الذي يحمل الاسم ذاته، طالبة منه العمل فوراً على إيقاف بث "قناة دينية" معينة، ضمن الحزمة التي تبثها "نايل سات" على القمر الاصطناعي "يوتلسات".

سألت الشركة المصرية عن سبب هذا الطلب الغريب، فكانت الإجابة أن "تلك القناة تبث محتوى يطعن في أتباع دين معين، ويحرض على التمييز ضدهم".

وقد استجابت الشركة المصرية لهذا الطلب على الفور.

ثمة قصة ثالثة مشوقة في هذا الصدد، في صيف عام 2012، كنا مجموعة من الإعلاميين العرب في زيارة لإحدى الدول الإسكندنافية التي تزدهر فيها الحريات، وعلى رأسها بالطبع حرية الرأي والتعبير، وغيرها من الحريات الأساسية والسياسية والمدنية.

وقد تمت دعوتنا لزيارة أحد أهم أساتذة الإعلام، والقائمين على برامج "التنظيم الذاتي" للممارسة الصحافية والإعلامية في هذا البلد.

سألنا البروفيسور: "هل لديكم مواد في القانون تتيح سجن الصحافيين والإعلاميين بسبب ممارسات صحافية؟"، فأجاب: "نعم".

عدنا للسؤال: "متى كانت آخر مرة حدث فيها أن تم سجن صحافي أو إعلامي بسبب ممارسة صحافية وفق هذا القانون؟"، فأجاب: "لم أسمع طوال حياتي المهنية، التي امتدت على مدى نحو 40 عاماً شيئاً مثل هذا".

لكنه روى لنا حكاية مهمة في هذا الصدد، قال البروفيسور الإسكندنافي إن معظم الصحافيين والإعلاميين يعرفون أن الشخص الذي يرأس الدولة في بلاده مصاب بداء السرقة، وأنه كثيراً ما يتورط في سرقة "ملاعق" أو "أكواب" في بعض الحفلات واللقاءات التي يحضرها، لكن أحداً من هؤلاء الصحافيين لم ينشر شيئاً عن هذا، كما أن أحداً لم يمنع النشر أو يتحدث بشأنه.

إنها مسألة تتعلق برؤية الجسم الصحافي والإعلامي لما يمكن أن ينشره أو لا ينشره. هو تقدير يخص كل صحافي وكل وسيلة إعلامية.

لكن بعض الإعلاميين لا يفعلون ذلك أبدا من تلقاء أنفسهم.

ففي صيف عام 2012، كانت الأميرة كيت ميدلتون زوجة الأمير وليام أحد ورثة العرش البريطاني، تقضي عطلة في أحد منتجعات جنوب فرنسا، حين التقط لها صحافيو "الباباراتزي" صورة أظهرت صدرها عارياً.

قامت مجلة فرنسية بنشر صور الأميرة، وهو الأمر الذي دعا العائلة المالكة في بريطانيا لرفع قضية على المجلة، متهمة إياها بـ"خرق خصوصيتها"، حيث استجاب القضاء للادعاء مباشرة، وحكم على المجلة بضرورة وقف نشر الصور، وعدم بيعها إلى أي جهة أخرى، وألزمها بتعويض قدره عشرة آلاف يورو عن كل يوم تأخير في تسليم الصور للعائلة المالكة البريطانية.

ثمة قصة أخرى موحية في هذا الصدد... وتلك المرة من بريطانيا.

فبعد 168 عاماً من النجاح المتواصل، اضطرت عائلة مردوخ الشهيرة في مجال الإعلام إلى إغلاق صحيفة "نيوز أو ذا وورلد"، وهي إحدى أهم صحف "التابلويد" الأسبوعية في المملكة المتحدة، وأكثرها توزيعاً بنحو ثلاثة ملايين نسخة أسبوعياً.

لقد افتضح أمر محررين لدى "نيوز أوف ذا وورلد"، وبعض الصحف الشعبية الأخرى في المجموعة الضخمة التي يمتلكها إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ، حيث كان هؤلاء المحررون يتنصتون على هواتف بعض ضحايا الجرائم، ونجوم، ومشاهير، وعائلات جنود قتلوا في عمليات عسكرية.

اعتذرت الصحيفة بمجرد الكشف عن فضيحة التنصت، لكن اعتذارها لم يكن كافياً. وانتفضت هيئات "التنظيم الذاتي" الناشطة في المجال الصحافي والإعلامي البريطاني، كما سعى جهاز "أوف كوم" المسؤول عن تنظيم عمل وسائل الإعلام المسموعة والمرئية إلى تقصي حالة مردوخ، ومراجعة طلبه للسيطرة على حصة حاكمة في شبكة "سكاي نيوز" الإخبارية، والتأكد من أنه "يمكن أن يكون مرشحاً لائقاً للسيطرة على حصة رئيسة في شبكة بث إخبارية مهمة في البلاد، في ضوء تطورات فضيحة التنصت".

لقد أحس مردوخ بأن الأمور تتدافع في غير مصلحته؛ لذلك، فقد قام بنفسه باتخاذ القرار الصعب. أغلق "نيوز أوف ذا وورلد".

ثمة قصة أخرى ضرورية لفهم الطريقة التي بات يتعامل بها المجتمع في العالم الحر مع حرية الرأي والتعبير. القصة هذه المرة من بعيد... من أستراليا.

فقد نقلت "الجريدة" مقالاً عن "ديفيد روبيك" في الأسبوع الماضي، تحت عنوان "في الدفاع عن الحماقة"، وهو المقال الذي أشار فيه إلى بعد آخر يتصل بالحدود الفاصلة بين حرية الرأي والتعبير من جانب وحق المجتمع في حماية نفسه من التضليل والمعلومات الضارة من جانب آخر.

يقول "روبيك" في مقاله إن وزارة التجارة العادلة في أستراليا، قررت تغيير اسم إحدى منظمات المجتمع المدني من "شبكة التطعيم"، إلى "شبكة التشكيك في التطعيم"، كما أزالت الإعفاء الضريبي الذي تتمتع به الشبكة بوصفها "عملاً خيرياً"، وألزمتها بعدم "ترويج معلومات مضللة".

وكانت تلك الشبكة قد سخرت نفسها لتقديم معلومات وصفت بأنها "مجتزأة من السياق وغير دقيقة" بشأن ما قالت إنه "أضرار التطعيم" ضد الأمراض، ونشطت في تشكيك الجمهور في عمليات التطعيم، إلى حد أن السلطات وجدت تراجعاً ملحوظاً في نسب الإقبال على التطعيم في البلاد، واستطاعت أن تربط بين هذا التراجع وبين نشاط الشبكة.

تعترف أستراليا بالحق في حرية الرأي والتعبير، ويتم تصنيفها في مراتب متقدمة في مؤشرات حرية الصحافة العالمية المعتبرة، ولا توجد شكاوى مؤثرة من حالة الحريات فيها، لكن السلطات وجدت، مع كل هذا، أن "إطلاق حق بعض الأشخاص أو المنظمات في تقديم معلومات مضللة للجمهور، يمكن أن يضر بمصلحة الأفراد وبالمصلحة العامة".

يؤدي إحجام بعض الأفراد عن التطعيم أحياناً إلى انتشار أمراض بعينها، وبالتالي إصابة آخرين، ولذلك، فقد تدخلت الحكومة للحد من أنشطة تلك الشبكة، وألزمتها بتغيير اسمها لـ "يكون منظورها واضحاً".

حين وجدت الحكومة أن المعلومات التي تقدمها الشبكة "مضللة وغير مبرهن عليها ومنزوعة من سياقها"، قامت على الفور باتخاذ إجراءات للحد من تأثيرها "الضار"، ولم يثر هذا الإجراء أي قلق بشأن حرية الرأي والتعبير.

تعطينا تلك القصص إطاراً مناسباً لكي نفهم طبيعة العلاقة بين حرية الرأي والتعبير وحق الجمهور والمصلحة العامة في مجتمع حر متقدم منظم تنظيماً جيداً.

وتوضح تلك القصص، من دون مواربة، أن الحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في إعلام حر منفتح بلا أي رقابة أو تضييق، يستلزم صيانة جملة أخرى من الحقوق؛ على رأسها الحق في الخصوصية، وفي الحصول على معلومات سليمة غير مضللة، وعدم الإضرار بمصالح الآخرين أو بالمصلحة الوطنية، وعدم التمييز بين المواطنين، أو التحريض على العنف، أو بث الكراهية.

* كاتب مصري