سرية التحقيق والفصل بين السلطات
التفسير المعقول، الذي أفهمه، للمادة 75 من قانون الإجراءات الجزائية في دولة القوانين غير المعقولة، بمعنى أنها قوانين تكرس هيمنة السلطة الحاكمة مع توابعها على المجتمع، وتقمع الرأي المعارض، هو أن سلطة المحقق بجعل التحقيق سرياً، وذلك بمنع نشر أي أخبار أو معلومات أو بيانات... إلخ، هي سلطة قاصرة على موضوع التحقيق، ولا تمتد إلى ظروف الوقائع وأسبابها التي يحقق فيها، وأن الغرض من النص على هذه المادة التي عدلها المجلس المبطل الأول كان منع المحقق (محقق شرطة، أو وكيل نيابة) من حرمان المحامي من حق حضور التحقيق بحجة السرية، كما كان وارداً في عموم النص قبل التعديل، فالسرية هنا يقصد بها سرية التحقيق لا سرية الحدث موضوع التحقيق.
فالمادة 75 المعدلة لم تصنع سلطات "تشريعية" للنائب العام حين أمر بمنع النشر الإعلامي أياً كانت صوره في قضية الشريط موضوع شكوى رئيس مجلس الأمة السابق جاسم الخرافي المقدمة إلى النيابة العامة.مهمة المحقق هي التحقيق في وقائع معينة قد تشكل جريمة أو لا، وفي النهاية لا يملك المحقق (هنا النائب العام أو من في حكمه) غير إحالة الأمر إلى المحكمة للفصل في النزاع أو حفظ القضية، أما رقابة الرأي العام على الأحداث السياسية العامة التي يفترض أن تمارس عبر وسائل الإعلام المختلفة، فلا يتصور أن النص السابق يمتد إليها، وإلا قلنا إن سلطة النائب العام، في جعل التحقيق سرياً هي سلطة تشريعية، تخلق القاعدة القانونية بنص عام ملزم للكافة، وهذا غير متصور، وتلك مهمة المشرعين لا القضاة، فمن حق الناس، عبر وسائل الإعلام، أن يتحدثوا في أي قضية عامة، ولهم أن يعبروا عن آرائهم فيها، ولا يصح الحجر عن هذا الرأي أو ذاك بحجة حساسية الموضوع سياسياً أو اجتماعياً، فالتحقيق في موضوع أي قضية لا يصلح أن يكون سبباً للحجر على الرأي العام، ولا يجوز أن يكون ذريعة لقبر الرأي الآخر، مهما اتفقنا أو اختلفنا معه، وهذا القدر المتيقن لمبدأ الفصل بين السلطات. هو القدر الثابت لمبدأ الشفافية، إن كنا نؤمن بهما حقيقة.