بالمقارنة بحربي غزة السابقتين في 2008، و2012، سنجد أن العدوان الحالي هو الأوسع نطاقاً، والأكثر شراسة، والأغزر ضحايا، والأطول أمداً.

Ad

لقد انتهت الهدنة المؤقتة التي رعتها مصر لثلاثة أيام، صباح أول أمس الجمعة، ثم ما لبث الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني أن استأنفا القصف، دون أن تظهر بوادر على إمكانية تمديد الهدنة، أو البدء بمفاوضات يمكن من خلالها الوصول إلى حل أكثر صلابة واستدامة.

منذ الأسبوع الأول لهذه الحرب، سارعت مصر لمحاولة لعب دور الوسيط الذي يمكن من خلال جهوده أن يوقف القتال، ويجد طريقاً لاستئناف محاولات التسوية السلمية للصراع، وهو أمر مشابه لما فعلته تماماً تحت حكم مبارك في 2008، وتحت حكم مرسي في 2012، لكن الجهود المصرية التي تم بذلها حتى الآن لم تنجح سوى في عقد هدنة هشة استمرت 72 ساعة، ثم عاد الطرفان للقتال من جديد.

عند كتابة هذه السطور كان عدد القتلى الفلسطينيين قد بلغ 1898 قتيلاً، في حين وصل عدد الجرحى إلى نحو 9837 جريحاً، إضافة بالطبع إلى آلاف المنازل والمباني والمرافق المنهارة، ونحو 500 ألف فار ونازح.

تمثل الحرب الراهنة على غزة امتحاناً حقيقياً للزعيم الجديد في مصر عبالفتاح السيسي؛ وهو امتحان يبدو أنه لا يملك رفاهية الرسوب فيه، كما يبدو أيضاً أن هناك من يريد أن يضع العراقيل في طريقه لإحراجه والنيل من مكانته، عبر تصعيب الأمور عليه ومفاقمة الحرب مهما كانت الخسائر والتضحيات التي يقدمها الفلسطينيون من المدنيين.

لتلك الحرب حسابات كثيرة ومتشابكة، ولكل طرف من الأطراف الفاعلة فيها أهداف يريد أن يحققها، لكن يبدو أن عملية تنحية مصر عن دورها الإقليمي أحد تلك الأهداف، وهو هدف تدرك القيادة الجديدة في مصر ضرورة عدم تحقيقه لأن تكاليفه عالية ولا يمكن احتمالها.

بمجرد نجاح مصر في وقف تلك الحرب عبر وساطة ناجعة، سيتم تدشين الدور الإقليمي لرئيسها الجديد عبدالفتاح السيسي، وستتحرر حركته الإقليمية، وستتعزز الثقة الدولية به، وستقل ذرائع النيل منه داخلياً، وفي حال أخفقت مصر في تحقيق هذا الهدف، الذي نجح نظام "الإخوان" في إدراكه دون مشقة وعنت، سيتزعزع اليقين الدولي والإقليمي في الرئيس الجديد، وستزيد الضغوط عليه داخلياً، وستبرز قوى فاعلة إقليمية مؤثرة تضم دولاً لطالما ناصبت السيسي العداء.

يبدو أن دور مصر الإقليمي على المحك خلال تلك الأزمة، ويبدو أنه آخذ في التراجع في ضوء منافسة شرسة وظروف غير مواتية.

في شهر أبريل الماضي، كنا أكثر من 150 مثقفاً وكاتباً وباحثاً عربياً، في مكتبة الإسكندرية، نشارك في مؤتمر "العالم العربي: نداء الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية"، حين تحدث باحث إماراتي مهم عن التغيرات في النظام الإقليمي العربي، معتبراً أن "زمن الدور المصري المحوري انتهى"، وأننا نعيش الآن "الزمن الخليجي".

كان الباحث الإماراتي يتحدث في حضور أكثر من 70 مفكرا ومثقفا مصريا على الأقل، ومثلهم أيضاً من العرب، لكن أحداً من الحاضرين جميعاً لم يشأ أن يعلق على ما أتى به هذا الزميل، رغم ما بدا من امتعاض وشعور مكتوم بالأسى والمرارة لدى معظم السامعين، الذين لم يتركوا شاردة أو واردة في حديث كل من اعتلى المنصة، إلا وأشبعوها بحثاً ونقداً وتفنيداً.

ربما كانت العلاقات المصرية- الإماراتية، التي شهدت أوج ازدهارها، منذ 30 يونيو 2013، سبباً في تقبل هذا "التشخيص" القاسي، وربما كان حرص هذا الباحث المحترم على اختيار كلماته، وتوجيه النقد من موقع "المحب والعارف بالقدر" مبرراً للكثيرين لكي يبلعوا الكلام، ولو على مضض.

مرت أيام قليلة، واشتعلت أزمة إعلامية مصرية- قطرية من تلك الأزمات، التي تكررت كثيراً منذ 30 يونيو 2013، في ضوء السياسة القطرية السلبية تجاه النظام والجيش والمؤسسات في مصر.

وفي ذروة التلاسن الذي صاحب تلك الأزمة، وجه صحافي قطري معروف انتقادات قاسية للمصريين، ومما قاله آنذاك: "المصريون لا يقدمون للعالم شيئاً سوى أقراص الطعمية"، بعدما تهكم على تغني المصريين بـ"أمجاد التاريخ"، في ما "خزانة البلاد خاوية تنتظر المعونة من الولايات المتحدة ومعها الإملاءات والإذلال".

لقد تعرض هذا الصحافي القطري لهجمات حادة وقصف كثيف مستمر من ألسنة وأقلام استعارت أفضل تجليات تراث "الهجاء" المصري، ووجهتها إلى هذا الرجل ودولته، وكان أبرز ما قيل في هذا الصدد، إن طهاة مصريين يعتزمون دخول موسوعة "غينس" العالمية للأرقام القياسية، عبر صناعة "قرص طعمية أكبر من مساحة قطر".

يتسم هذا الرد طبعاً بسرعة البديهة وخفة الظل كما هو معهود، لكنه ومئات غيره من الردود والتعليقات التي تناولت الموضوع لم تخرج عن مسارين أساسيين؛ أولهما "التغني بأمجاد الماضي"، وثانيهما "معايرة قطر بصغر الحجم وحداثة النعمة"، ولم يفند أحد جوهر المقولة: "لم يعد المصريون يصنعون غير أقراص الطعمية".

لو كنت مثلي من المهتمين بمحاولة تقصي مسارات الرأي العام عبر تتبع ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي، لأمكنك أن تصل إلى تحليل مرجح مفاده أن قطاعاً من الناشطين العرب على تلك الوسائط يواصل شن هجمات مركزة على مصر (الكيان، والدولة، والدور، والثقافة، وليس النظام الحاكم فقط)، بهدف الحط من شأنها، وتلطيخ سمعتها، والتهوين من مكانتها، وتسفيه أفعالها وخياراتها وأدوارها.

من الممكن تفهم وقوع مثل تلك الحملات من جمهور غير مختص، في سياق محلي وإقليمي متشظ وفائر، ووسط حملات مدبرة للتأثير في الصور الذهنية، لكن الملاحظة الجديرة بالاعتبار في هذا الصدد أن كل التفاعلات التي تصدر عن مصريين، أو محبين لهم، دفاعاً عن دور مصر ومكانتها لا تخرج أيضاً عن مسارين: "التغني بأمجاد التاريخ"، و"شن الهجمات المضادة على المتطاولين عبر شتمهم والحط من شأنهم".

قبل أسبوع، أجرت "سي إن إن" لقاء مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وهو أحد أشرس أعداء السيسي والساعين إلى تجريد مصر، في ظل حكم النظام الحالي، من دورها الإقليمي، ومن بين الأسئلة التي تم توجيهها إليه هذا السؤال: أنت متهم بمحاولة سلب مصر دورها في أزمة الشرق الأوسط؟ وكان رد أردوغان على النحو التالي: لا يوجد دور لمصر أصلاً حتى نسلبها إياه.

تحيل إجابة أردوغان الصادمة إلى أحد تسريبات "ويكيليكس" المهمة، وهو تسريب نقل عن رئيس الوزراء القطري ووزير الخارجية السابق الشيخ حمد بن جاسم قوله إن "مصر مثل طبيب لديه مريض واحد هو القضية الفلسطينية، وهذا الطبيب لا يريد لهذا المريض أن يموت بالطبع، لكنه أيضاً لا يريد له أن يشفى".

لقد وافقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وعدد من الدول العربية الرئيسة والمنظمات الدولية الفاعلة، فضلاً عن إسرائيل، على المبادرة المصرية التي تم طرحها بعد نحو أسبوع من اندلاع القتال في غزة، لكن "حماس" رفضتها بشدة، في وقت حاولت فيه قطر وتركيا لعب دور في الوساطة عبر مؤتمر باريس الذي لم تحضره مصر. رفضت "حماس" مبادرة مصر، ثم راحت تطالب قطر وتركيا بطرح مبادرة أخرى للقبول بها.

لم تختلف مبادرة مصر في عهد السيسي جوهرياً عن المبادرة التي تلقفتها "حماس" بالموافقة حين قدمها مرسي في 2012، لكن هذه المرة تم وضع العصي في دواليب الحل المصري، وتم إلصاق التهم الزائفة به.

يبدو أن دور مصر الإقليمي على المحك، وعلى السيسي أن يدرك أنه لا يمتلك رفاهية خسارة هذا الدور في هذا التوقيت بالذات، وهو أمر يدركه أيضاً منافسوه، ولذلك فإن المعركة ستكون مكلفة وصعبة.

* كاتب مصري