الرواية التي بين يدي كانت مفاجأة لي، إذ بدت كعزف على وتر، تنقلك هبة محمد الإبراهيم بين أوتار آلة موسيقية وتشعر بمتعة السرد، وتناغم الحروف والجمل. رغم صدى حزن عميق تعيشه بطلة «فَقدٌ.. وبَعد} دانة، يبرز السؤال: من أين اكتسبت هبة هذا الأسلوب الرائع فبدت متمكنة من أدواتها، واستغلت، بتعمد، روح الشعر لتنقلك بين الأمكنة في شوارع لندن وبين مبانيها إلى شواطئ الخليج حيث الكويت؟

Ad

على مرّ الصفحات تحلّق بك الكاتبة عبر يوميات تتباعد وتتقارب، ثم تعود إلى سنوات مضت، من دون أن تشعر، كقارئ، بثقل هذا الانتقال. يمثل العمل حالات إنسانية لا بد من أن يعيشها البعض تتمحور حول الفقد المؤلم والرحيل من دون استئذان.

حب طاهر

تقدم الكاتبة عبر الرواية صوراً نعيشها يومياً، لكن لا يفصح البعض عنها إلا عند تحقيق الحلم، تتحدث عن حب طاهر يترعرع في ممرات جامعاتنا، وأماكن العمل هنا وهناك، حب طاهر بين شاب وشابة، يعيش بصمت وعبر النظرات والأصوات المكبوتة ليكلل بالخطبة والزواج، وتكوين أسره. هنا تلغي الكاتبة الفكرة النمطية التي يروج لها البعض، بتعمد، ومفادها أن أي اختلاط هو جريمة نكراء وشر مستطير.

في الرواية يرسم عبدالله ودانة ذلك الحب الذي يحدث يومياً في ممرات الجامعة، ويكلل بالفرح إذ يتقدم لخطبتها، ويرسم حياة طبيعية تلغي ما نراه من محتوى أعمال درامية رمضانية تنقل لنا، بتعمد، الوجه الشاذ لعلاقات تكون آثمة، غالباً.

 

صراعات وضرب وعنف.

وفي السياق، أذكر أنني كنت أعمل في شركة ما منذ سنوات طويلة، وفي ساعات الصباح الأولى، رأيت الزملاء يباركون لزميلتي التي مكتبها ملاصق لمكتبي، واعتقدت أنها حصلت على ترقية أو يصادف هذا اليوم عيد ميلادها، ولكن اكتشفت أن أحد زملاء العمل في قسم آخر عقد قرانه عليها، باركت وفرحنا لها، وقبل أشهر التقيت، مصادفة، بذلك الشاب الذي عقد قرانه على زميلتنا، وبجانبه فتاة جميلة في العشرينيات من عمرها أكملت للتو دراستها الجامعية، عرفت أنها ثمرة ذلك الزواج.

نأتي هنا لنُعرّف القارئ بحروف هبة في عزف منفرد، ففي أحد الفصول تكتب: «تركت نصف روحي في وطني، وديعة في رعاية الله، أنقذني الجاكيت الأحمر الصوفي ذو ياقة الفرو السوداء، دسته أمي في حقيبتي في آخر لحظة، تدثرت به في الطريق كمدفأة أم، لا شي يوقف تلك البرودة التي تقتحم العظام..».

وفي مقطع آخر: «أنا هنا هاربة من متاهات ذاكرتي والسكك الحديد التي طوقت قلبي بعده، إلى قطارات لندن الصاخبة- أنا هنا هاربة». ويمثل الهرب لعبة بطلة الرواية منذ البداية حتى النهاية، هرب من المكان ومن الزمان، وهذا هو المؤلم بعد الفَقد الكبير.

الأماكن

 المكان ظاهر في هذه الرواية، وذكر ملامح المكان وزواياه يترك التخيّل للمتلقي ومنحه فرصة أكبر للتعايش مع الحدث، في هذه الرواية نرى ذكراً للمكان حيث تتفاعل الأحداث وبهدوء، هنا تأتي إلى ذاكرتنا أغنية «الأماكن كلها مشتاقة لك»، رائعة الفنان محمد عبده، ونلاحظ ذكر أماكن تدور حولها ذكريات وذكريات، مثل: «ماي فير» لندن، «هايد بارك»، أروقة جامعة الكويت، «ستاربكس» أكسفورد، تاج محل الهند، مكة المكرمة وشواطئ الكويت.

لعبة

استخدمت الكاتبة لعبة المذكرات، ما ساعدها على إتقان تقنية الفلاش باك، فتعود سنوات إلى الوراء وتحيي ذكريات مع عبدالله الذي يعيش معها يومياً أو لا يعيش!! الحوار في تلك الفقرات ينعش ذاكرة القارئ ويقدم له وصفاً دقيقاً وطبيعياً لما حدث وليس خيالياً أو مستبعداً. تصوير الوقائع عبر الفلاش ينقلنا إلى الحب الطاهر الذي يتخيل للبعض أنه انتهى بعد زمن قيس وليلى، رغم أن الحب والعشق لا ينتهيان إلا بانتهاء الحياة على هذه البسيطة.

مؤلفة هذه الرواية، كانت في إبان الغزو العراقي بعمر الثماني سنوات، لذا وظفت ما شاهدته في تلك الأشهر الصعبة في مضمون الرواية، ضمن فقرات فصل «طفلة وأمومة»، وكأنها تقول: «أنا كنت شاهدة على ما حدث ولو كنت طفلة، للأطفال عيون ترسم الألم وذلك الزمن المجنون كما رسمه الكبار».

كذلك تستعين بمفردات شعرية لها أو لشعراء أو حتى مفكرين، وقد أعطى ذلك نفحات حب لمادة الكتاب، فتورد نصوصاً لـ: جبران خليل جبران، محمود درويش، غازي القصيبي، طاغور، ولكن لا مفردات من ملامح لنصوص من شعراء الكويت، فهل ثمة ابتعاد عن ثقافتنا المحلية والخليجية من الكاتبة؟... لا أعرف!

دخلت الكاتبة لعبة الحوار باللهجة المحلية، بين فترة وأخرى، وكان هذا مفيداً لمعايشة واقع حياة مجتمعها، صحيح أنها استخدمت الحوار بشكل أقل، إلا أن الاستعانة بمفردات محلية صعبة مفيدة، مثل الحوار الذي جاء على لسان الجد الذي خاطبها قائلا:»أنا قلت لك لا تجين إذا بيضيق خلقج، بس أنا أحب أمر حق أمج شيخة، ادعيلها واسلم عليها وارتاح»، إذ يبيّن حب الجد لزوجته شيخة وإخلاصه لها، وهذا رسم لحب ملائكي آخر، ذلك أن استخدام مفردات محلية صعبة مثل «أمج... خلقج» قد لا يفهمها المتلقي العربي من جنسيات أخرى، كونه غير ملم بمفرداتنا، وكان بالإمكان استعمال مفردات أسهل، شخصياً ككقارئ قد لا استسيغ متابعة حوار باللهجة المحلية المغاربية ليس لكونه من ذلك البلد العربي، بل لأنه يصعب علي فهمه.

 نقاط

نكتشف عبر محتوى رواية «فَقدٌ... وبَعد» أن في الكويت شباباً مبدعين تصدر لهم أعمال في بيروت وعواصم أخرى عن دور نشر كبرى، وتلقى صدى طيباً، إلا أنهم مجهولون في الداخل إذ لا تسلط عليهم الأضواء.

بختام عرضي هذا، أذكر نقاطاً قد لا تخلّ بمضمون العمل إلا أنها، وفق ما أراه، يفترض أن تأتي بصور مغايرة منها: عنوان الكتاب غير مغرٍ ومبهم وغير مستفز، ولو كان ثمة عنوان آخر لكان أفضل لذاكرة القارئ والناقد. غلاف الكتاب غير موفق، ذلك أن المصمم استعان باللون الأبيض وهو غير جاذب في رفوف الكتب، كذلك بدت صورة الغلاف تقليدية جدا، وأعتقد أنها لا تخدم المضمون، فصورة لؤلؤ أو دانة رغم أنها تتوافق مع اسم بطلة الرواية قد لا تعني شئياً.

بهذا العمل المتميز، على الكويت أن تفرح بكاتبة مثل هبة محمد الإبراهيم وبإصدارها الجديد.