تركيا... والمستجدات الخطيرة!
ستكون انتكاسة مروِّعة للإسلام السياسي المعتدل إذا فشلت تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، وعادت الأمور إلى فترة ما قبل سطوع نجم رجب طيب أردوغان، الذي، في حقيقة الأمر، قطف ثمرة "إرهاصات"، في اتجاه هذا التحول، استمرت عدة أعوام انتهت بإقصاء جنرالات مصطفى كمال (أتاتورك) عن الحكم، الذين بقوا يمسكون به بقوة منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي تقريباً، ونفّذوا من أجله عدداً من الانقلابات العسكرية.لقد جاءت تجربة العدالة والتنمية كاستجابة لتحولات شهدتها تركيا التي لم تكتشف فقط، بل تيقنت وتأكدت، أنها ارتكبت خطأً استراتيجياً فادحاً عندما أدارت ظهرها للعرب وأهل منطقة الشرق الأوسط، وحصرت رهانها على السعي إلى قبولها في العائلة الأوروبية، لتصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي اللاحق، وهذا أكَّد أن الساسة، الذين قادوها قبل عام 2002 قبل سطوع نجم رجب طيب أردوغان، لم تكن لديهم القدرة على التقاط حقائق التاريخ ومعرفة أنه لا يمكن، على الإطلاق، أن يقبل الأوروبيون في "عائلتهم"، التي ضمت لاحقاً أوروبا الشرقية، دولةً إسلاميةً كبيرةً بهذا الحجم وبهذا الموقع الجغرافي... وأيضاً بهذا الدور الذي ورثته عن الإمبراطورية العثمانية التي وصلت طلائع خيول فرسانها إلى "فيينا" التي تعتبر قلب القارة الأوروبية.
لقد ثبت أنَّ كل توجهات مصطفى كمال (أتاتورك)، الذي لا شك أنَّه قائد فذٌّ استطاع الحفاظ على باقي ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية، وكل توجهات الذين جاءوا بعده وساروا على الطريق الذي اختطه للدولة التركية الجديدة لم تغير في حقائق التاريخ شيئاً... وحقائق التاريخ المقصودة هي أنَّ هذه الدولة دولة إسلامية، وهي جزءٌ من هذا الشرق حضارةً وديناً وعادات وتقاليد، وأنه من غير الممكن، على الإطلاق، أن يتخلى شعبها عن الإسلام ويبقى يتمسك بـ"علمانية" أرادها البعض نقيضاً لهذا الدين الحنيف وبديلاً عنه. لقد كان هذا خطأً فادحاً بالفعل، والدليل هو ما رأيناه وما نراه الآن من نهوض إسلامي هائل في تركيا، حيث جاء حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان ليُعَقْلن هذا النهوض وليبعده عن موجة التطرف التي باتت تضرب، ليس هذه المنطقة وحدها، بل العالم بأسره، وليرفع، أي أردوغان، شعار: "إنني رئيس وزراء غير علماني لدولة علمانية... وإنَّ العلمانية التي نعنيها هي حماية معتقدات المواطنين الأتراك، وأيضاً حماية حقهم في ممارسة هذه المعتقدات".لكن المشكلة أنَّ رجب طيب أردوغان، الذي كان من المنتظر ألا يتطلع "حزبياً" خارج حدود تركيا وأن يكون تركيزه على إنجاح هذه التجربة العظيمة اقتصادياً بالدرجة الأولى ثم سياسياً واجتماعياً وثقافياً، قد انساق مع أحلام جماعة الإخوان المسلمين وتنظيمها العالمي لإحياء الخلافة العثمانية ولكن بـ"سلاطين" عصريين، ولذلك فإنه قد اتخذ هذا الموقف المتشدد غير المبرر إطلاقاً تجاه الحركة التصحيحية التي قامت بها القوات المسلحة المصرية في الثلاثين من يونيو الماضي استجابة لغالبية الشعب المصري.والمؤكد أن رجب طيب أردوغان، بالإضافة إلى أنه باتخاذ هذا الموقف الذي اتخذه تجاه المتغيرات المستجدة في مصر وتغليب ارتباطاته الحزبية (الإخوانية) على المصالح العليا للدولة التركية، قد خسر معظم شعبيته السابقة في هذه المنطقة، وخسر أيضاً جزءاً من هذه الشعبية في تركيا نفسها، والدليل أنه بات يتصرف، إنْ داخلياً وإنْ إقليمياً، بعصبية مفرطة، وهذا لم يكن منتظراً ولا متوقعاً من رجل دولة سطع نجمه بسرعة، وأصبحت تجربته مثالاً أثار الإعجاب في هذه المنطقة وفي العالم كله.لكن، مع هذا، فإنه لا يمكن "القَطْع" بأنَّ هذه التجربة الواعدة التي جعلت تركيا محط أنظار أبناء هذه المنطقة والعالم الإسلامي كله قد اقتربت من الفشل، إذْ إنه لا تزال هناك إمكانية لتدارك الأمور وإعادة الحسابات على أسس واقعية صحيحة بعيدة عن تأثيرات التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وإذ إنه مازالت هناك إمكانية للفوز بالانتخابات المقبلة، التي لا يجوز، وقد حصل كل هذا الذي حصل، أنْ يكون رجب طيب أردوغان مرشحها عن حزب العدالة والتنمية لرئاسة الجمهورية، وبخاصة أن الواقع التركي لا يسمح بلعبة "التناوب" الروسية المثيرة للضحك، والتي غدت مكشوفة ومعروفة!