تبدل عقلية السياسة الخارجية الأميركية
دروس أميركا في حقبة ما بعد الحرب الباردة تزداد وضوحاً: فالعراق فشلٌ، وأفغانستان مستنقع لا هدف منه، والشرق الأوسط عموماً منطقة كثيرة الاضطرابات تناضل لتحدد هويتها وتبدو منيعة أمام تدخل الغرب وتملقه ونفوذه.
بدأت حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر تخبو في السياسة الخارجية الأميركية، ما يتيح الفرصة أمام الولايات المتحدة لتبني تفكيراً جديداً بشأن الحرب والسلام، متى يجب السير نحو الحرب، متى يلزم اعتماد السبل الدبلوماسية، ما أولويات البلد الجيو-سياسية، وما الطريقة الفضلى لتحقيق المصالح الوطنية؟ يسم تطوران سياسيان أخيران نقطة التحول هذه، ولا شك أننا سنشهد المزيد من هذه التطورات في المستقبل القريب.التطور الأول، بروز قرار يوحد الحزبين في مجلس الشيوخ ويُطالب بمناظرة وتصويت في الكونغرس بشأن المرحلة التالية من سياسة الولايات المتحدة في أفغانستان. تريد إدارة أوباما إبقاء عشرة آلاف جندي أميركي في ذلك البلد خلال العقد القادم، لكن هذا القرار، الذي رعاه الديمقراطيان جيف مركلي وجو مانشين والجمهوريان مايك لي وراند بول، يؤكد أن اعتبار التزام مماثل امتيازاً رئاسياً خطوة مبالغ فيها؛ لذلك من الضروري أن يشارك الكونغرس في بت هذه المسألة.
سعى أعضاء مجلس الشيوخ ذاتهم إلى إدخال تعديل مشابه إلى مشروع قانون إقرار الدفاع الوطني، إلا أن هذه الجهود أُعيقت بسبب الخطوات البرلمانية التي اتخذها زعيم الأكثرية هاري ريد، لكن مسعاهم ذاك نال دعم نحو 12 راعياً، وأعرب مجلس النواب عن تأييده بأغلبية 305 أصوات مقابل 121 صوتاً للغة شبيهة بلغة مجلس الشيوخ، مع أنها أُزيلت بعد ذلك من النسخة النهائية لقانون إقرار الدفاع الوطني.أما التطور الثاني، فكان الهزيمة التي لحقت بلجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك)، عندما سعت إلى تقوض مشاركة الرئيس أوباما في المفاوضات الحاسمة على الأرجح بين إيران والقوى الست الكبرى بشأن سياسة إيران النووية العسكرية. حاولت جماعة الضغط الإسرائيلية الواسعة النفوذ تمرير تشريعات في الكونغرس تفرض عقوبات اقتصادية مشددة على إيران، مع أن الإدارة شددت على أن هذه الخطوة ستعرقل محادثات بالغة الحساسية وتزيد على نحو كبير احتمال أن تُضطر الولايات المتحدة إلى اللجوء إلى الوسائل العسكرية بغية منع إيران من تطوير أسلحة نووية.كانت "أيباك" في الماضي تحقق مبتغاها في الكونغرس. وبدا أنها ستنجح في ذلك هذه المرة أيضاً، فقد وقع نحو خمسين سيناتوراً على مشروع القانون، قبل أن يعلن الرئيس أوباما أنه سيلجأ إلى حق النقض، نظرا إلى كره الولايات المتحدة المتنامي للحروب في الشرق الأوسط. فتراجعت "أيباك" بسرعة، وبدا منطقياً أن يفضل قادة هذا اللوبي تراجعاً مدروساً على مواجهة خسارة كبيرة على يد رئيس الولايات المتحدة الأميركية في مسألة تُعتبر مسألة حرب أو سلم.نشر موقع The Daily Beast الإلكتروني مقالاً بعنوان "كيف أخفقت أيباك في معركتها الكبرى منذ سنوات؟"، ثم استفاض المحللون في شرح هذه الفكرة. فقد ذكر رون كامبياس، مدير مكتب واشنطن لوكالة الأنباء اليهودية، أن هذه المعمعة أوقعت "أيباك" في الحيرة، حتى إنها لم تتمكن من تحديد أجندتها المعتمدة لمؤتمر السنوي الكبير في واشنطن إلا قبل ثلاثة أسابيع فقط. أما جنيفر روبن، الكاتبة المتعصبة التي تنتمي إلى فكر المحافظين الجدد في صحيفة "واشنطن بوست"، فقد كتبت أن أيباك "تمر في أكثر مراحلها اضطراباً منذ عقود"، مع أنها تلقي بالتأكيد مسؤولية هذه الصعاب على أوباما أكثر منه على قادة "أيباك".لكن السبب الحقيقي هو أن مسائل الحرب والسلم في الولايات المتحدة تمر اليوم بمرحلة تحول سياسي. يريد هذا البلد السلام، وبعد تطورات العقد الأخير، حدد الأميركيون معياراً أعلى بكثير لقبولهم بالمزيد من الأعمال العسكرية حول العالم التي قد تُبرر بتعابير واهية عن أن الولايات المتحدة تحتاج إلى حماية نفسها من الأشرار الدوليين.يُعتبر قرار مجلس الشيوخ بشأن أفغانستان أكثر تعبيراً، فقد أشار استطلاع أخير للرأي أجرته شبكة CNN أن معارضة المزيد من التدخل الأميركي في الأعمال العدائية في أفغانستان تبلغ 82%، ما يجعلها (وفق مجلةThe Nation) "الحرب الأقل شعبية في تاريخ الولايات المتحدة". كذلك أخبر السيناتور جو مانشين من غرب فرجينيا هذه المجلة: "إذا تمكن أهل... ولايات هذا البلد العظيم من التحدث إلى ممثليهم، أعتقد أن كل الممثلين سيكتشفون أن المسألة واحدة تجمع بينهم". وأضاف أن الشعب لا يفهم لمَ على الجيش الأميركي، بعد 12 سنة في أفغانستان، أن يبقى هناك عقداً آخر، خصوصا أنه ما من هدف واضح معلن لاستمرار دور الجيش في ذلك البلد، وأن التهديد الإرهابي الأفغاني قد عولج منذ زمن. كان هذان التطوران سيبدوان مستحيلين قبل بضع سنوات، حين كانت الرؤى التي تحرك الولايات المتحدة ترتكز على الإحسان الأميركي من خلال تخفيف معاناة الإنسانية وسد حاجاتها حول العالم، لكن عدد الأميركيين الذين يؤمنون بذلك اليوم بدأ يتراجع، في حين أن الدروس الأميركية المستمدة من السياسة الخارجية في حقبة ما بعد الحرب الباردة تزداد وضوحاً: فالعراق فشلٌ، وأفغانستان مستنقع لا هدف منه، والشرق الأوسط عموما منطقة كثيرة الاضطرابات تناضل لتحدد هويتها وتبدو منيعة أمام تدخل الغرب وتملقه ونفوذه، والولايات المتحدة دولة تُعتبر بأمس الحاجة إلى المواساة والمعالجة.في هذا المناخ السياسي الجديد، قد يبدأ هذا البلد عملية صوغ مجموعة جديدة من الأفكار والمبادئ التي ستشكل على الأرجح أساس سياسة خارجية مختلفة. ستُستهل هذه العملية بتحليل مكثف لمصالح هذا البلد الأساسية حول العالم لتنتقل بعد ذلك إلى كيفية معالجة هذه المخاوف والانسحاب من مناطق وصراعات لا تؤثر في مصالح الولايات المتحدة الأساسية. وتشمل أسئلة السياسة الخارجية التي قد تحظى باهتمام كبير:- لمَ علينا أن ننفر روسيا بدون أي مبرر وندفعها إلى التحالف مع دولة الصين الناشئة، في حين أنها قد تؤدي دوراً موازناً للصين بالغ الأهمية؟- لمَ علينا أن نأبه بمن يدير حكومة أوكرانيا؟- لمَ نريد التدخل في منطقة الشرق الأوسط الكثيرة الاضطرابات هذه الأيام؟- ما الطريقة الفضلى، والمتقنة، والأكثر فاعلية للرد على عدائية الصين المتنامية في شرق آسيا؟- أي نوع من التحالفات المبتكرة الجديدة يمكننا الانضمام إليه بصدق والحفاظ عليه بحسن نية، معززين في الوقت عينه سعي الولايات المتحدة لبقائها القوة الأبرز حول العالم؟- ماذا يجب أن يكون التزام الولايات المتحدة تجاه أوروبا بصفتها مهد الحضارة الغربية؟ وكيف يجب الوفاء بالتزام مماثل؟ما كانت هذه الأسئلة لتناقش بفاعلية وقوة، في حين كانت الولايات المتحدة تتخبط وسط حربين وتخصص الكثير من التفكير في مجال السياسة الخارجية لما يُطلق عليه "الحرب على الإرهاب". لكن الأوضاع بدأت تتبدل، فيحاول الشعب الأميركي اليوم سحب التفويض الذي منحه لحكامه في مجال السياسة الخارجية... لكن توافر الفرصة المناسبة يبقى أمراً مشكوكاً فيه.