لم تتح لي الظروف سابقاً لمشاهدة أي من أفلام المخرجة وكاتبة السيناريو التونسية كوثر بن هنية المقيمة في باريس؛ سواء فيلمها القصير الأول {أنا وأختي والشيء} (2006) أو فيلمها الوثائقي {الأئمة يذهبون إلى المدرسة} (2010) أو الفيلم القصير {يد اللوح}، الذي عُرض في المهرجان المتوسطي للفيلم القصير في طنجة المغربية. لكن الحظ أسعدني بمتابعة فيلمها الطويل الأول {شلاط تونس}، الذي عُرض في الدورة العاشرة لمهرجان دبي السينمائي، وأدركت بعد مشاهدته أن لديها دراية كبيرة بوظيفة السينما، والدور الذي ينبغي أن تؤديه في مجتمعاتنا العربية، وتعرف كيف توظف لغتها لخدمة قضايانا الواقعية.

Ad

في فيلم {شلاط تونس} (إنتاج تونس وفرنسا وكندا والإمارات العربية المتحدة/ 2013)، تفتح كوثر بن هنية ملف القضية التي أثارت الرعب في المجتمع التونسي صيف عام 2003، عقب تجوّل شاب تونسي في شوارع تونس فوق دراجته البخارية، وتعمده ضرب مؤخرات الحسناوات والجميلات التونسيات بسكين في يده. وعادت المخرجة، بعد عشر سنوات من الحادث، لتبحث ملابساته، وتُميط اللثام عن أسراره، بعدما خالجها شعور بأن ثمة من أضفى على الشاب هالة أسطورية، وعلى الحادث غموضاً مريباً، بينما لا يوجد دليل ملموس على أرض الواقع يؤكد ما جرى، بل إن الجميع يتحدث عن {شبح مجهول}!

إثارة تجربة {شلاط تونس} (89 دقيقة)، ليست في أسلوب تناول الحادث الذي كتبت المخرجة على الشاشة أنه تكرر بشكل مماثل في مصر وسورية، ولا في السينما الاستقصائية التي لجأت إليها، وإنما في براعتها في تطوير المشروع الوثائقي لتجعله أقرب إلى الفيلم الروائي، وقدرتها على صنع فيلم ممتع نوه، بطرف خفي، إلى اتساع رقعة التطرف بشكل ينبئ بالخطر. فالشباب التونسي الذي التقته أجمع على أن {التشليط جزء من ثقافتنا العربية}، وأثنى على ما حدث من الشاب {المجهول}، بحجة أنه ثأر لهن من {الفتيات المغرورات}، وقاوم انحراف اللاتي كن يرتدين {الجينز الضيق}، واللاتي يتوجب {اغتصابهن} إذا لزم الأمر(!).  بل إن بعضهم رأى أن ما حدث هو من قبيل {النهي عن المنكر}. وفي خطوة تالية التقت المخرجة، التي ظهرت بالصوت والصورة، ضحايا {شلاط تونس} ممن فوجئن ببلل في مؤخراتهن اكتشفن بعده أنه ناتج من الدماء التي سالت بعد {التشليط}، واتفقن جميعاً على أن {الألم راح لكن الخوف لم يذهب}. بل إن إحداهن رسمت وشماً على مكان الطعنة لتخفي آثارها!

المثير أن المخرجة لم تخش الذهاب إلى الحارات والمقاهي الشعبية، وطالبت {الشلاط} بأن يتصل بها. بل عقدت جلسة دعت إليها عدداً من أصحاب السوابق لتختار الأصلح منهم لأداء دور {شلاط تونس} قبل أن تفاجأ بمن يقتحم المكان ويُهدد الجميع بالعقاب، مؤكداً أنه جلال الدريدي الذي ارتكب الحادث، ولا يمكن لأحد أن ينتزع منه هذا {الشرف}. فما كان من المخرجة سوى أن اقتفت أثره والتقت أمه، التي بدت فخورة بما فعل ابنها، وبعودته إلى المنزل لم يُمانع في الحديث للمخرجة، ومواجهة الكاميرا، وأكد أن الأجهزة الأمنية قبضت عليه في حادث سرقة سيارة، ولم تقبض عليه متلبساً  في حادث {التشليط}. ونفى اتهامه بأنه مريض نفسياً، وإن لم ينكر فشل قصة حبه، وغضبه من فتاته، وحبه لأمه فقط.

الطريف أن الشاب كان يرتدي {تي شيرت} عليه صورة آل باتشينو في فيلم {الوجه ذو الندبة} scarface، واستثمر الحادث، مع صديق له، وجعل منه لعبة فيديو تشجع الشباب والأطفال على محاكاة {الشلاط}، ما أثار حفيظة وغضب ناشطة حقوقية. لكن الشاب تشبث بموقفه، بعدما صدق الوهم، وعاش في دور {شلاط تونس}، الذي كان سبباً في اتساع نطاق شهرته، وذيوع صيته، بينما أدركت كوثر بن هنية أن لديه حضوراً لكنه يعاني كبتاً، وخرجت بنتيجة مهمة مؤداها أنه مجرد {كبش فداء}. بل إنه {صنيعة نظام} تعمد بث الإشاعة والترويج لها، ليشغل الناس في مرحلة ما من حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ويصرف الأنظار عما يحدث في المنطقة العربية في تلك الفترة.

اقتربت التجربة من الواقع الاجتماعي، ولم يغب عنها الحس الإنساني؛ لأن المخرجة التي ولدت في أغسطس من العام 1977 لأب من كتّاب القصة التونسية هو محسن بن هنيّة عرفت، حسب اعترافها، أنها تفتقد الأسلوب الخاص الذي يجعل منها كاتبة كأبيها وأدركت أنها تتقن الكتابة بالصورة، فاستغلت انتهاء دراستها للتجارة ودرست الإخراج السينمائي في معهد الفنون والسينما في تونس، ثم التحقت بجامعة {لا فيميس} في باريس، ودرست قواعد كتابة السيناريو هناك، ومن ثم لم تفاجئنا عندما كتبت بالصورة فيلماً يجمع بين العنف وخفة الظل. ولا تسألوني: كيف؟