لم يحظَ القارئ العربيّ عموماً، بفرصة الاطّلاع على أعمال الأديب الأميركي تشارلز بوكوفسكي. فقد ظلّ مختفياً عن الأنظار في ساحة الترجمة، ولم يسلّط عليه الضوء من {الوكلاء} الذين يتلقّى عبرهم القارئ العربي حاجته من الأدب الغربي. فباستثناء بعض التّرجمات الفرديّة لبعض قصائد بوكوفسكي هنا وهناك أو مختارات من مئات القصائد في عشرات المجموعات الشعريّة التي ألّفها، لا نجد محاولة حقيقيّة للتعامل الجادّ مع أعماله. لعلّ السبب في ذلك يعود إلى طبيعة الكتابة البوكوفسكيّة التي تمتاز بالإباحيّة والجرأة في التعبير عن الواقع، والدّمج بين البساطة اللغويّة وبين عبقريّة المفاجأة في طَرح الفكرة. ولعلّ {الجرأة} في الأدب الذي يكتُبه بوكوفسكي هي سبب من أسباب التحفظ منه عربياً. وفي ذلك تطبيق لمبدأ {تهميش المهمّش}.

Ad

لكن ما يمكن أن نؤكّده في هذا السّياق، هو ضرورة تعريف القارئ العربيّ بنتاج بوكوفسكي شعراً وروايةً وقصّةً وسيرةً، وفتح المجال لاكتشاف أديب له بصمته ولعنته وتميّزه وجرأته وإن عاش لفترة طويلة بمعزل عنّا كقرّاء. كان تشارلز بوكوفسكي صوتاً عبقرياً نافذاً أكسبَ الشعر الأميركي والرواية الأميركية مذاقاً خاصاً صادماً لم تشهد له الساحة الأميركيّة مثيلاً سابقاً. وقد ظلّ بوكوفسكي راعي البقر الذي لم يحرس قطيعاً، والعامِل الذي لم يغادر مسلخ البهائم، والأديب الأميركيّ الذي شتم جمهوره فضحكوا له.

 أبو اللعنات

يَقول بوكوفسكي في إحدى مقولاته الأكثر شهرةً: {أعتقد أنّه يجب إجبار الرّجل على الكتابة في غرفة تعجّ بالجماجم، وحوله قطع لحم معلّقة، قضمتها الجرذان الكسولة والسّمينة}.

يشكّل هذا الوصف تعبيراً حياً عن فظاظة الرّوح التي يكتب بها بوكوفسكي وهي بحجم فظاظة الواقع الّذي عاشه. فعلى مَدار عقود رحلته الأدبيّة، لم يتعدّ ما كتبَه الفخّ البشريّ الذي يدور رحاه في الكَسل، وفكرة الموت، والفوضى المستعرة، ورداءة الواقع، التوصيف المجازيّ والجماليّات اللغويّة المفبركة.

يُعَدّ بوكوفسكي ظاهرة احتجاجيّة في السّاحة الأدبيّة الأميركيّة. فلم يحظَ الرّجل باعتراف أدبيّ لائق في الولايات المتحدة حيث اعتُبر كاتباً {تخريبياً}، وذلك بحُكم طبيعة الطّرح الّتي تتضمّنها كتاباته، إلى جانب طبيعةِ سلوكه الاجتماعيّ الذي لم يرضخ لمقوّمات الأديب {المقبول} اجتماعياً.

على عكس الولايات المتّحدة، اعتُبر بوكوفسكي في أوروبا أحد أكثر الكتاب الأميركيين شهرةً، وقد كانت كتبه في كثير من البلدان الأوروبية الأكثر مبيعاً فتُرجِمَت إلى لغات عدة. لذا، تمتّع بوكوفسكي بشهرة وانتشار واسِعَين في سبعينيات القرن الماضي في معظم أنحاء أوروبا في حين بقي الستار مُسدَلاً عليه جراء تهميشه المقصود على يد المؤسسة الأدبية والنقدية الأدبية الأميركية.

يَعود ذلك، وبوكوفسكي يُدركُ ذلك، إلى طبيعة الذّهنيّة والتّكوين النفسيّ للأميركيين وقتها. فأميركا على حدّ تعبيره بلد لا يحبّ المجازفة ولا يذهب بعيداً في تشكيل صور تعبير جديدة فنياً، لهذا نجد أن الثّورات والمغامرات الفنية والأدبيّة وصلت من أوروبا في وقت متأخّر ولم ينجح الأميركيون تماماً في الذهاب بها بعيداً، باستثناء تيّار جيل البيت Beat Generation الذي عرّى جسد أميركا وبيّن بشاعة واقعه القذر. فأميركا هي بلد محليّ يهوى أناسه المحليّة والحفاظ والأمن. وفي هذا السياق، يقول بوكوفسكي: {أظنّ أن الجمهور الألماني أكثر انفتاحاً على المغامرة وعلى سُبل التعبير الجديدة. لماذا، لا أدري. يبدو أنّهم هنا في أميركا يفضّلون أكثر الأدب الآمن والثابت}.

جاء بوكوفسكي ليشكّل الصوت القَذر الذي هزّ عرش الأدب الأميركي الثابت. فالتفكّك الاجتماعي، والفساد، والعُنف، والكُحول، والجنس، والغضب، والحُلم الأميركي المُجهَض الذي عكسته كتابات جيل البيت أمثال آلن غينسبرغ وجاك كيرواك ووليام بوروز وريتشارد فورد وغيرهم، جميعها كانت مواضيع مطروحة في أعمالهم، وذلك بحُكم معايشتهم الحرب التي كشفت عن الوجه البشع لبلدهم وولّدت فناً جديداً غريباً عليها.

رغم أن بوكوفسكي لم يرتبط بجاك كيرواك وألن غينسبرغ أو غيرهما من كتّاب جيل البيت، فإن أسلوبه غير الرسميّ والذي لم يُطابق النهج الأدبي المتعارَف عليه في أميركا، حّبب فيه قراء جيل البيت، وذلك لاقترابه منهم في روح ما يكتب.

بوكوفسكي هو بطل الهامش بجدارة وكاتب من كتاب الأندرغراوند الذي لم يكن يوماً ابن المؤسسة، وهو فنان فضّل أن يظلّ حراً شريداً في الشارع، على أن تُمسك المؤسسة النّقديّة بخناقه وتؤطّر ما يكتبه في قالب يجعل منه كاتباً عبداً لها.

هبوني أموالكم أهبكم روحي

تميّز بوكوفسكي بالصّراحة الفظّة، وربما كان هذا أكثر ما جذب الجمهور إليه على عكس توقّعات المؤسسة الأدبيّة والنقديّة التي أهملته لفترة طويلة. في هذه الصّراحة الفظّة شيءٌ من الدعابة والمفارقة التي تبعثُ على الضّحك من كلّ ما يقومُ به بوكوفسكي علناً. فقد يركل خطيبته شاتماً إيّاها أمام الجمهور، وقد يشتم محاوراً علناً على مسامع الملايين، وقد يَصدر عنه كلام بذيء لمذيعة أو لامرأة في إقحامٍ عنيف لجمله، وقد يخاطب الجُمهور على منصّة الإلقاء قبل أن يبدأ بإلقاء الشّعر: {هبوني أموالكم، أهبكم روحي}، فتضجّ القاعة بالضّحك والتصفيق إعجاباً.

للكتابة عند بوكوفسكي ميزتان لا تفارقانها: الصّدق والفظاظة. طقوسه قاسية وتعابيره حادّة وقذرة لا تعرف حُرمةً للغة ولا شرفاً لكلمة، حيث يذهب بالصورة إلى أقصى حدودها ليقولَ شيئاً عن الحياة وعن الكتابة التي لا تعني له شيئاً إذا لم تكن تجربة حياة وانعكاساً للواقع كما هو بكلّ ضراوته ووحشيّته...

«الكتابة الحذرة هي كتابة ميّتة}، يقول بوكوفسكي، وهو الكاتب الذي ظلّ عاري الصدر في مواجهته للحياة متحولاً من عامل لغسل الصحون، إلى سائق شاحنة، إلى ساعٍ في مكتب البريد، إلى عامل في مسلخ البهائم، إلى موظّف في مرأب، إلى عاطل عن العمل، إلى مدمن كحول. كلّها تجارب علّمته كيف يكون ضارياً في كتابته بعيداً عن الفبركة اللغويّة لا يختبئ في برجه العاجي، وقادراً على قول أعمق الأمور بأبسط الكلمات:

أشعر بالمرارة أحياناً

لكن غالباً ما يكون الطّعم حلواً

ببساطة خفتُ أن أبوح بذلك

الأمر أشبه بأن تقول لك امرأتك {قل لي إنّك تحبّني}

فلا تقوى.

 تلك هي الموهبة التي جاء بها بوكوفسكي إلى عالم الكتابة. رجلٌ يحترق في المياه ويغرق في النّار ولا يُخفي حقيقته أمام أحد ولا يزرع آمالاً كاذبة في صدر أحد. والكتابة تشبه إلى حدّ كبير صاحبها. فبوكوفسكي لم يعرف خطوطاً حمراء في كتابته البسيطة والعبقريّة. هذه البساطة والعبقريّة تتجلّيان أيضاً في شخصيّته الجريئة والفظّة على المستوى السلوكيّ وعلى مستوى علاقته مع النّاس. وقد لعبَت في حياته دوراً كبيراً.

عنف ودمامة وعزلة

ادّعى بوكوفسكي أنّ غالبية ما كتبه كان نقلا حرفياً لما حدث في حياته. فنسبة 93 في المئة من عمله كان سيرة ذاتية، أما الـ 7 في المئة المتبقيّة فكانت لـ}تحسينها} على حدّ قوله. وتبدأ مسألة عدم وضوح الحدود بين الحقيقة والخيال في كتابته مع ظروف ولادته. يقول: {ولدتُ لقيطاً} (خارج إطار الزوجية). وقد نقل هذه القصة في عام 1971، وكررها مرات عدة سواء في المقابلات وفي كتاباته.

وُلد هذا الطّفل، هنري تشارلز بوكوفسكي، في أندرناخ في ألمانيا عام 1920 لأمّ ألمانيّة وأب هو جندي أميركي من أصول بولندية. وفي عام 1923، انتقلت عائلته إلى بالتيمور في الولايات المتحدة، في أعقاب الأزمة التي اندلعت بعد الحرب العالمية الأولى. ثم انتقلت العائلة إلى ضواحي لوس أنجليس، حيث سكنت أسرة والده. وهناك عاش بوكوفسكي معظم حياته.

في كتاباته للسير الذاتيّة، وفي المقابلات التي أجراها والرسائل التي كتبها للأصدقاء، اعترف بوكوفسكي ببساطة ووضوح أن طفولته كانت مخيفة وكئيبة، فقد كان طفلا ممنوعاً من الاختلاط ببقيّة الأطفال، لأنّ والديه اعتبرا نفسَيهما أفضل من سكّان الحي الذي عاشوا فيه. ولا غرابة في أن يتحوّل الطّفل المتعفف إلى موضوع للسخريّة. فضلاً عن معاناته من عسر القراءة، وهو ما استدعى فصله عن بقيّة الأولاد.

في طفولته، كان والده عاطلاً عن العمل في أحيان كثيرة، ممّا أدّى إلى تعرّض للإهانة والضّرب منه وقد خلّف ذلك عنده ندوباً كثيرة. وفي هذا السياق يقول بوكوفسكي إنه كان يعاقب على يد والده بشكل شبه يومي، ويتلقى ما يصل إلى أربع عشرة جلدة، دون أن تحرك والدته ساكناً. وقد أدى فشلها في وقف الضرب، أو التعاطف مع ابنها إلى فقدانها لاحترامه ومودّته، وبعد مرور سنوات عاقب الابن والده بالضّرب هو أيضاً.

كانت مرحلتَا الطفولة والمراهقة عند بوكوفسكي، مرحلتين فظيعتين، ولعلّهما من أكثر المراحل تأثيراً في حياته. فقد عانى، إلى جانب عنف الوالد، من البثور والدمامل التي برزت في جميع أنحاء الوجه والظهر. لم تكن هذه البثور مجرّد بقع، فقد غطّت جفونه، وأنفه، وارتسمت وراء الأذنين وفي شعره. وكان هذا الداء من المستحيل إخفاؤه، الأمر الّذي شكّل محنتين بالنسبة إليه، محنة اجتماعيّة وأخرى عاطفيّة.

«مَكتَب البَريد} هي الرواية الأولى لبوكوفسكي، وتحكي سيرتَه الذاتيّة مع بطله هنري تشيناسكي، أثناء فترة عمله في مَكتب البَريد على مَدار 14 عاماً، وتغطّي أعواماً من حياة بوكوفسكي: من عام 1952 حتّى استقالته من مَكتب البَريد عام 1955، ثم عودته في عام 1958 حتى عام 1969. وفي هذه الأعوام، نكتشف حياة بوكوفسكي كما عاشها: من علاقات نسائيّة، إلى سباقات الخيل، إلى التشرّد والوحدة، إلى عالم الخدمة البريديّة الذي لم يخلُ أيضاً من شخوص مجنونة.