عندما طُلب من الشاعر الكئيب شارل بودلير (1821-1867)، الذي كان يكره بلجيكا أكثر من أي شيء آخر، أن يتخيل نقشاً على ضريح ذلك الوطن، اقترح ما يلي: "وأخيراً!". هذا ما يشعر به عدد كبير من الأوروبيين بشأن تنامي الاشمئزاز سريعاً من الاتحاد الأوروبي (مقره الرئيسي بروكسل).

Ad

تُعتبر معارضة الاتحاد الأوروبي قضية تستحق العناء، لكن تتبناها للأسف أحزاب سياسية معروفة بدوافعها المشبوهة وأعضائها سيئي السمعة، وقد تصبح حكراً لهم قريباً. تلك النزعة إلى كره الأجانب ومعاداة السامية وغيرها من رواسب الماضي الأوروبي المرير أصبحت اليوم حاضرة في مختلف زوايا القارة، وهي تدين سلوك الاتحاد الأوروبي (وأبرز الأحزاب الأوروبية) الذي يغفل عن المخاوف المشروعة لدى أشخاص محترمين ينتابهم الخوف من الضرر الذي يلحقه الاتحاد الأوروبي بالديمقراطية والحرية.

خلال انتخابات البرلمان الأوروبي (مؤسسة شائبة تفترض وجود ثقافة سياسية أوروبية مشتركة لكنها تستعمل 24 لغة رسمية) في الشهر الماضي، حققت الأحزاب التي تُعتبر عموماً من الجماعات "المتطرفة" نتائج مبهرة في فرنسا وبريطانيا والنمسا والدنمارك واليونان، وذلك من خلال التشديد على معاداتها للاتحاد الأوروبي، فقد عبّرت عن معارضتها لـ"تجميع" السيادات الوطنية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي و"تنسيق" السياسات الوطنية من جانب الأنظمة البيروقراطية في بروكسل، إذ تساهم هذه العوامل كلها في تقليص حقوق البرلمانات الوطنية التي تم اكتسابها على مر القرون.

حزب "الفجر الذهبي" اليوناني (حصد 9.4% من التصويت في اليونان ورمزه هو الصليب المعقوف) وحزب "جوبيك" المجري المعادي للسامية (14.7%) هما من الأحزاب التي تعبق بمظاهر الفاشية. في فرنسا، فازت "الجبهة الوطنية" بقيادة مارين لوبان لكنها جذبت عدداً من المنتسبين المزعجين، مما دفع نايجل فاراج، زعيم "حزب استقلال المملكة المتحدة"، إلى استبعاد التحالف معها.

قد يظن مؤيدو الاتحاد الأوروبي أن هذه الأحزاب، مثل النحل، ستموت بعد أن تلدغ، صحيح أن "حزب استقلال المملكة المتحدة" لا يملك مقعداً في مجلس العموم، لكنه فاز بمقاعد بريطانية في الانتخابات البرلمانية الأوروبية بما يفوق المقاعد التي حصدها حزب العمال أو حزب المحافظين الحاكم (حلّ في المرتبة الثالثة)، وهي المرة الأولى التي لا يفوز فيها حزب العمال أو المحافظين بانتخابات وطنية بريطانية منذ 103 سنوات. ذكر الصحافي روجر كوهين من صحيفة "نيويورك تايمز" أن صحيفة "لوموند" الفرنسية كتبت أن "الجبهة الوطنية" برئاسة لوبان فازت بـ43% من أصوات العمال و37% من أصوات العاطلين عن العمل (يبلغ معدل البطالة 23.2%)، بعد أن حصدت لوبان 25% من الأصوات مقابل 20.8% و14% للحزبَين الأساسيين (أي الاشتراكيين الحاكمين)، يقول كوهين إن "نظام الحزبَين أصبح الآن ثلاثي الأحزاب"، كما أنه لا يستبعد أن "تصبح رئيسة البلاد". ستجرى الانتخابات الرئاسية في عام 2017.

قبل مئة سنة، واجهت أوروبا أول حرب من حربَيها وقد خرجت منها مرعوبة من نفسها، وبعد إساءة تشخيص معنى النزعة القومية واعتبارها سبب معاناة أوروبا (كان هتلر متحيزاً لعرقه ولم يكن قومياً، وهو لم يصبح مواطناً ألمانياً حتى السنة التي سبقت تحوّله إلى مستشار ألمانيا)، عمد القادة الأوروبيون إلى تقليص النزعة القومية تدريجياً، لقد نسفوا بذلك أسس الحكم بالإجماع (أي صلاحيات البرلمانات الوطنية).

وفق الافتراض السائد، إذا تحولت أوروبا إلى كائن اقتصادي محض، ستتقبل حينها نشوء اتحاد متقارب من الدول التي تتراجع سيادتها كثمن يسرّها أن تدفعه مقابل الديناميكية الاقتصادية، لكن يبدو أن استنزاف صلاحيات البرلمانات من جانب بيروقراطية بروكسل العابرة للأوطان يتزامن الآن مع حالة من الركود في أنحاء القارة.

أصبح كل شيء اليوم منظماً، بدءاً من الأجبان وصولاً إلى الواقيات الذكرية، فالكلمة الألمانية التي تعبّر عن هذا الوضع هي Gleichschaltung، أي حث الجميع على التعاون، أو تحقيق التوافق على الأقل، أو ربما يرتكز الوضع على مبدأ "التوجيه" (dirigisme) وفق المعنى الفرنسي، أو "التسلط" (bossiness) وفق المعنى الإنكليزي.

في عام 1988، رفضت زعيمة قومية بريطانية في بروج، بلجيكا، بالقرب من بروكسل، الجهود الرامية إلى "قمع النزعة القومية وتركيز السلطة وسط تكتل أوروبي"، فقالت رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر: "نحن لم نسترجع حدود الدولة بنجاح في بريطانيا كي يُعاد فرضها على مستوى أوروبي".

كان يمكن أن تؤدي دوافع حزب "الشاي" الأميركي (تحرك ضد نمو صلاحيات الحكومة بطريقة غير شرعية) إلى نشوء حزب ثالث، لكن نجح أبرز حزب في التكيف مع الوضع. لو تابع حزب المحافظين البريطاني مسار تاتشر، أو إذا تبنى حزب فرنسي كبير رؤية شارل ديغول عن "أمم أوروبا"، كان يمكن أن تُنقَل مخاوف ملايين الأوروبيين بشأن تكثف النزعة "الدولانية" في أوروبا مقابل تراجع النزعة القومية إلى أحزاب أكثر أهمية، لكنها وقعت بيد أحزاب صغيرة تصرّ على موقفها: ما فرّقه أكثر من ألف تطور وطني مختلف لن ينجح الاتحاد الأوروبي في إعادة جمعه.

George F. Will جورج. ف ويل