مستقبل ثقافة «العيش المشترك»
ثورات ربيع العرب التي انطلقت شرارتها الأولى في تونس 17 ديسمبر 2010 أسقطت أنظمة عربية مزمنة، وأفرزت أوضاعاً فاسدة استغلتها قلة متنفذة بددت مقدرات البلاد، وتحكمت في مصائر العباد، إذ استبشرت الجماهير بتلك الأنظمة الفاسدة وتطلعت إلى تحقيق آمالها في غد أفضل تسود فيه العدالة والحرية والكرامة.باركنا جميعاً ثورات الربيع وساندناها كتّاباً ومثقفين، كما ساندها المجتمع الدولي مالياً وسياسياً، نعم فرحنا بسقوط الدكتاتوريات العربية وأملناها أن تكون آخر الدكتاتوريات، لكن في غمرة الأفراح لم نحسب التداعيات والتبعات، فقد كان سقوط الدكتاتورات العربية، التي كانت بمثابة "اللاصق العنيف" بحسب تعبير الكاتب السوري محمد سيد رصاص، للمكونات المجتمعية غير الاندماجية، إيذاناً بسقوط ثقافة "العيش المشترك" على أيدي جماعات العنف والكراهية.
ثورات ربيع العرب أطلقت الوحوش الضارية من عقالها، فخرجت من كهوفها المظلمة لتعيث في الأرض فساداً عريضاً، تقتل وتقطع الرؤوس وتنشر الرعب والدمار، وتشرد الملايين من أوطانهم، وتستولي على ممتلكاتهم، رفعت هذ الثورات القشرة الخارجية الخادعة التي كانت تغطي ما في أعماق المجتمعات العربية من موروثات الكراهية والإقصاء، اليوم ما زالت الأرض العربية تقذف ما في جوفها من مخزون تعصبي وقمعي في شكل جماعات متطرفة عنيفة، أسوؤها جماعة "داعش" التي لا تقبل الآخر ولا تعترف بثقافة العيش المشترك. إنها اليوم تستهدف، بشكل منهجي، الطوائف والأقليات التاريخية التي سكنت بلاد الرافدين منذ العصور السحيقة، وعاش أبناؤها على امتداد التاريخ الإسلامي في "تعايش مشترك" صحي وبنّاء، آمنين على أنفسهم وأولادهم وأموالهم وكنائسهم يمارسون شعائرهم الدينية ويتمتعون بحقوقهم الإنسانية، في حماية الدولة الإسلامية، وأنتج هذا التعايش المشترك، ازدهاراً علمياً ومعرفياً شمل كل أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، وكان المسلمون في ذلك مدفوعين بتعاليم دينهم الآمرة بإحسان التعامل مع غير المسلمين وفق قاعدتي "البر" و"القسط"، واقتداء بسنّة نبيهم محمد، عليه الصلاة والسلام، الذي كفل في أول دستور للدولة الإسلامية حقوق وواجبات يهود المدينة. دولة "داعش" اليوم تسعى إلى اقتلاع الطوائف الدينية والأقليات التاريخية من أوطانها بقوة السيف، وتشن حرب إبادة جماعية عليها، فهي لم تكتف بتفريغ "الموصل" من المسيحيين، لتصبح ولأول مرة في تاريخها خالية من سكانها الذين استوطنوها 1500 سنة، بل عمدت إلى أبناء الطائفة الأيزيدية لتقتل رجالهم وتسبي نساءهم وتحاصر من بقي منهم من النساء والأطفال والضعفاء في جبل سنجار بلا ماء ولا مؤونة. لم تستطع قوات "البيشمركة" الصمود طويلاً أمام وحوش "داعش" الضارية، ووقف العراقيون عاجزين عن فك الحصار وتقديم العون، لكن صرخة الاستغاثة المدوية الموجعة للضمائر، للنائبة الأيزيدية (فيان) في البرلمان العراقي، والدموع تنهمر من عينيها: أنقذونا، قومي يذبحون، نساؤنا تسبى كالجواري، دين كامل يباد على وجه الأرض، لم تذهب صرختها سدى، إذ تحركت أميركا فأرسلت مقاتلاتها تدك وحوش "داعش" وتفك الحصار وتوصل المؤونة للعالقين، وتنقل بعضهم وتفتح ممراً آمناً للمحاصرين، وتحرك المجتمع الدولي، فأصدر مجلس الأمن بياناً أدان فيه استهداف الأقليات العراقية واعتبر "الهجمات الممنهجة ضد المدنيين بسبب انتمائهم الديني أو العرقي، يمكن أن تشكل جريمة ضد الإنسانية"، وسارعت فرنسا وأميركا إلى تقديم السلاح للبيشمركة لمواجهة "داعش"، كما سارع الاتحاد الأوروبي إلى تنسيق الجهود لمواجهة تقدم "داعش" كما قدمت بريطانيا وأستراليا وغيرهما المساعدات الإنسانية. وكان "الفاتيكان" قد دعا علماء المسلمين إلى التنديد بالأعمال الإجرامية التي يرتكبها جهاديو "الدولة الإسلامية" ضد المسيحيين والأيزيديين والأقليات الأخرى في العراق، وقال: إنه لا سبب ولا دين يبرران مثل هذه الأعمال الوحشية: قطع الرؤوس والصلب وتعليق الجثث وخطف النساء والفتيات، وممارسة الختان وفرض الجزية واللجوء إلى العنف الفظيع بهدف الترهيب، كما حثّ علماء المسلمين والمشاكين في حوار الأديان على اتخاذ موقف واضح وشجاع، وأن على الجميع إدانة هذه الجرائم بصوت واحد من دون لبس، وأن ينددوا بالتذرع بالدين لتبريرها، وأضاف: إنه على مر القرون، عاش المسيحيون إلى جانب المسلمين، مما أدى إلى ثقافة تعايش وحضارة، يفتخرون بها، مذكرا بقيمة "الحوار بين المسيحيين والمسلمين الذي استمر وتعمق".إن ثقافة أو فن "العيش المشترك" لهي أعظم ثروات الإنسانية، كما قال الكاردينال الفرنسي فيليب بربران، رئيس أساقفة ليون، وقد عبر عنها القرآن الكريم في كلمات معجزات مثل "لتعارفوا" و"ولذلك خلقهم" و"لكم دينكم ولي دين"، وهدف "داعش" تفريغ بلاد الرافدين من طوائفها الدينية وأقلياتها العرقية التاريخية، وترحيلها إلى الخارج، وأيضاً ضرب ثقافة "العيش المشترك"؛ لذلك ينبغي على العراقيين جميعاً توحيد جهودهم، وبخاصة في ظل الحكومة الجديدة، وعلى العرب والمجتمع الدولي تقديم كل أشكال المساندة العسكرية والسياسية والمالية، لإفشال جهود "داعش"، بتثبيت الطوائف والأقليات في أوطانها، لا تسهيل انتقالها وهجرتها، وذلك تعزيزاً لثقافة "العيش المشترك" التي هي نعمة عظيمة في مجتمعاتنا، وصيانة لمستقبلها. * كاتب قطري