تبدو الحرب على التماثيل السياسية هينة وعابرة مقارنة بالحرب الضروس والغوغائية التي تخوضها الجماعات

Ad

{البن لادنية} على الأضرحة والمزارات وحتى الآثار التاريخية، فالشائع عند الشعوب أن إزالة تماثيل سياسييها، لا سيما الطغاة والمستبدين منهم، تكون نتيجة بديهية ومألوفة يستوجبها التخلّص من إرثهم الثقيل وشبحهم وسجنهم، والتطهّر المعنوي من استبدادهم وبوليسيتهم عقب الانتفاضة عليهم كما حصل في البلدان الشيوعية في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، وفي العراق عام 2003 بعد إسقاط صدام غداة الاحتلال الأميركي للعراق، وفي ليبيا {القذافي} وسورية {الأسد} عام 2011 بعد {الربيع العربي}.

كان تدمير التماثيل السياسية في هذه البلدان نتيجة طبيعية لإعلان نهاية نظام وبدء نظام جديد أو مرحلة جديدة، واسقاط التماثيل ليس سوى نقطة البداية للتحرر من هول الاستبداد الذي يحتل الفضاء العام.  

لكن الجماعات البن لادنية المتطرفة حين تحارب التماثيل والمزارات والصور فهي تفعل ذلك من منطلق فقهي عقائدي وليس سياسي، فـ{القاعدة} و{جبهة النصرة} و{حركة طالبان} إنما يعتدون على التماثيل لأنهم يجردونها من بُعدها الجمالي والفني، ولا يرون فيها إلا عمقها الديني والوثني والصنمي. ويهدمون الأضرحة لأنهم يحرمون البناء وإشعال الأضواء فوق القبور، وحتى في قطر منع تمثال نطحة زين الدين زيدان لأسباب تتعلق بالأصنام، وكان وضع استعداداً لمونديال 2022.

مستقبل الربيع العربي

كانت حرب الجماعات الأصولية على الآثارات التاريخية وأضرحة الأولياء والمتصوفة وتماثيل الأدباء (من المعري إلى هارون الرشيد وحتى تمثال العذراء)، أول «أسفين» يدق في مستقبل «الربيع العربي»، بعدما شكَّل تدمير تمثالي بوذا في باميان في أفغانستان عام 2001 مشهداً لتشويه صورة الإسلام، هي واقعة تؤكد، في نظر الرأي العام العالمي، أن الإسلام معاد للصورة والرموز الدينية الآخرى، لأن فتوى الملا عمر الطالبانية تعلل الإقدام على التحطيم بكون تلك التماثيل تمثل رمزاً للكفر وعبادة الأوثان. كان قتل التماثيل أقوى من المجازر التي تحصل.

شبح التطرف الأصولي أثار بلبلة وتشاؤماً بعد موجة «الربيع العربي» عام 2011، بسبب الفتاوى التي صدرت هنا وهناك بشأن المزارات والأضرحة وحتى الآثار، ففي مصر خرج بعض الدعاة المتطرفين بفتوى تقول بضرورة هدم الآثار، وفي مقدمها الأهرامات الثلاثة وأبو الهول والتماثيل الفرعونية، وادّعوا أنها أصنام، ويجب أن تُحطَّم حتى لا تُعبَد. ولاحقا طاولت الاعتداءات التكفيرية تمثال الشاعر أبي العلاء المعري، في معرّة النعمان. ونسف تمثال أبي تمام في مدينة جاسم في ريف درعا السورية بتوقيع من «جبهة النصرة». دون أن ننسى الأضرحة والمزارات التي هدمت في شمال مالي وليبيا وبعض مناطق سورية.

والقضية ليست في التماثيل والمزارات التي تدمر بل في الثقافة الدينية التي تحض على التدمير والهدم. يمكن لنا البحث في الأسباب التي لأجلها تُغتال التماثيل والمزارات، بدءاً من السبب السياسي إلى السبب الديني العقائدي والأخلاقي. يشير الباحث والجامعي أحمد زين الدين إلى أن الاقتصار على الخلفية الدينية من دون سواها، التي تعتمدها وسائل الإعلام، في تفسير عملية التدمير والهدم التي أصابت بعض هذه التماثيل، إنما مرده عاملان: {أحدهما بروز الجماعات الإسلامية المتطرفة في العالم العربي. وثانيهما، وهو الجوهري: العامل العقائدي الديني ونظرته في مسألة التصوير والتشخيص والتجسيد... فالإشكالية الدينية التي تؤمن بـ{السلف الصالح} لا تزال حبيسة النص المقفل، تحرّم التصوير والتجسيد والتشخيص وحتى السينما والمسرح والجمال والفنون ولكنها تصطدم اليوم بطوفان الصور المتنوعة التي تبثها وسائل الاتصال والميديا. إن أي زيارة إلى بلاد المسلمين تضع المرء إزاء واقع آخر، واقع مليء بصور نجوم السينما والغناء والرياضية كأنهم أصنام أو آلهة العصر الحديث، حتى بعض الملل والمذاهب الإسلامية استسلمت لمنطق الصورة ومعانيه وأهميتها ولم تتردد في تقديم صور للأمة والأنبياء كما يحصل في الهند حيث هناك صور متخيلة للنبي محمد، وفي العراق وإيران حيث تنتشر صور الإمام علي والحسين التي وصلت تداعياتها إلى لبنان.

ومحاربة الصورة، أو التمثال كفرع من الصورة، ليست بدعة إسلامية فحسب. بل تمتد جذورها في جوهر الأديان التوحيدية، خصوصاً اليهودية، إذ ثمة شبه في الموقف من الصورة والتمثال بين التعاليم اليهودية والفقة الإسلامي، فقد جاء في التوراة {لا تصنع تمثالاً منحوتاً، ولا صورة ما عما في السماء} (الوصايا العشر) وجاء في الحديث الشريف: {إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون} (رواه البخاري). أما المسيحية فتعاملت مع الصورة تعاملا قدسياً، ودمجتها في سياق طقوسها وأيقوناتها، ولكنها شهدت في عهد الإصلاح الديني، خلال القرن السادس عشر، موجة من تحطيم الأيقونات ورسوم القديسين في نوافذ بعض الكنائس البريطانية، من معارضين لعبادة الصور وتقديسها، بتأثير من المرجعية التوراتية اليهودية.

موقف إيجابي

وفي العصر الحديث كان لكثير من التنويريين الإسلاميين موقف إيجابي من الصور والتشخيص مثل العلامة عبدالله العلايلي في كتابه {أين الخطأ؟} الذي يعتبر كتاباً تاسيسياً في الفقه الاسلامي، وينتقد التحرج من التشخيص، ويأخذ على بعضهم منعهم ظهور الصحابة في أفلام السينما.  

وقبل العلايلي كان الشيخ محمد عبده الذي زار فرنسا وأعجب بمظاهرها العمرانية والجمالية، قارن بين الصورة المادية والصورة الشعرية، واعتبرها ضرورية في الحياة العملية، وبمقارنته تلك، يقبل بالصورة المادية باعتبارها مساعدة على التذوق الجمالي.

أما الجماعات السلفية اليوم، فهي مصابة بالجمود العقائدي وتخرج عن واقعية المجتمع وتطوره وتحولاته.  

ومعظم الجماعات والأديان المتطرفة تقوم سياستها على نبذ الآخر وتكفيره سواء من خلال حرق كتبه أو هدم تماثيله وأضرحته وتراثه الفني والديني. قامت النازية الهتلرية في ألمانيا على حرق الكتب وأنشأت الستالينية الشيوعية على أنقاض تلف التراث المسيحي في روسيا، لقد تم تدمير أهم الأيقونات الأرثوذكسية من النظام الشيوعي، وفي لبنان لم تتردد إحدى الفرق الشيوعية في نبش قبر أحد الإقطاعيين انتقاماً منه، ولاحقاً لم تتردد الأحزاب الطائفية في العبث بقبور الشيوعيين من الذين قاتلوا اسرائيل.

وهكذا موجة التخوين والتكفير حاضرة بقوة لدى الجميع ولكن بنسب متفاوتة، واليوم تبدو في منسوبها الأعلى لدى الجماعات السلفية البن لادنية.