يبقى التفاوت الاجتماعي هو السمة المميزة والأكثر إثارة للجدل التي تحيط بالفكر الرأسمالي وتطبيقاته، وفي البداية، وأثناء حقبة الثورة الصناعية دفع جمود الأجور وتركيز الثروة العالمين الاقتصاديين ديفيد ريكاردو وكارل ماركس إلى التشكيك في مدى قدرة الرأسمالية على الاستدامة والاستمرار ملمحَيَن إلى اقتراب أوان فنائها.

Ad

أما في القرن العشرين، فلم يول الاقتصاديون اهتمامهم بقضايا التوزيع وتفاوت الدخول في خضم "الضغط الكبير" والتسارع المحموم اللذين أعقبا الحرب العالمية الثانية، لكن البروز العصري للتباين والتفاوت في الدخول دفع الاقتصاديين الجدد إلى التساؤل- على غرار ما كان يقول ريكاردو وماركس- بشأن القوى التي يمكن أن تحول دون توزيع ثمار الرأسمالية بصورة أوسع نطاقاً.

نضج الاقتصاد

يعتبر كتاب "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" من تأليف توماس بيكيتي، مدرس الاقتصاد لدى "كلية باريس للاقتصاد"، دليلاً موثوقاً لهذه القضية، وقد تم نشر هذا الكتاب في سنة 2013 باللغة الفرنسية، ومن المقرر صدوره باللغة الإنكليزية في شهر مارس المقبل، وهو يعتمد على أعمال مفكري القرن التاسع عشر، كما أنه يضم معلومات راسخة وموثقة تتناول قضية الرأسمالية على مدى قرنين من الزمن.

ويشير الكتاب الى أن بعض الحكم والقواعد التقليدية التي جرى تداولها كثوابت في القرن العشرين كانت خطأ بصورة سيئة، ويبدو أن التباين الاجتماعي أو تفاوت الدخول لا تنحسر مظاهره أو تأثيراته مع نضوج الاقتصاد كما سبق أن جادل سيمون كوزينتس، الاقتصادي الحائز جائزة نوبل في خمسينيات القرن الماضي. كما يلفت النظر إلى أنه ينبغي علينا ألا نتوقع انتقال حصة الدخل وتحولها إلى رأس المال وبقاءها مستمرة بمرور الزمن: وهو ما يصفه اقتصادي آخر، هو نيكولاس كالدر، بأنه حقيقة جوهرية لمفهوم النمو الاقتصادي. ويقول الاقتصادي بيكيتي إنه ليس هناك سبب للتفكير في أن الرأسمالية سوف تقلص "بصورة طبيعية" وتلقائية أي اتساع في مستويات التفاوت واللامساواة في المجتمعات.

الركن الجوهري في رؤية الاقتصادي بيكيتي وتحليلاته يعتمد على معدل رأس مال الاقتصاد (أو بما يعادل الثروة الاقتصادية) إلى الناتج السنوي، ومنذ عام 1700 حتى الحرب العالمية الأولى كان مخزون الثروة في أوروبا الغربية يدور حول 700 في المئة من الدخل القومي. وبمرور الوقت تغيرت تركيبة الثروة، كما تراجعت أهمية الأراضي الزراعية في حين اكتسب رأس المال الصناعي- المصانع والآلات والملكية الفكرية- أهمية أكبر. وعلى الرغم من ذلك ظلت الثروة ثابتة عند معدلات عالية (حسبما مبين في الجانب الأيسر من الشكل البياني).

تدمير رأس المال

كانت الاقتصادات في الفترة التي سبقت عام 1914 متفاوتة وغير متساوية إلى حد كبير، وفي سنة 1910 سيطرت أكبر 10 في المئة من العائلات الأوروبية على حوالي 90 في المئة من كل الثروات، وأسهم تدفق الإيجارات والأرباح الرأسمالية في حدوث ذلك التباين الشديد في الدخل، وحصلت العائلات الـ10 في المئة الأعلى على أكثر من 45 في المئة من الدخل الكلي. وتشير تحليلات الاقتصادي بيكيتي إلى وجود قدر ضئيل من الإشارات إلى حدوث تراجع طبيعي أو تلقائي في التباين مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.

وقد دفعت الحروب والركود في الفترة ما بين 1914 و1950 الأثرياء إلى الحضيض، وتسببت الحروب في حدوث تدمير حقيقي لرأس المال العيني، وموجات التأميم، والضرائب، والتضخم، أما "الركود العظيم" فقد دمر الثروات من خلال خسائر رأس المال وشيوع حالات الإفلاس، وعلى الرغم من ذلك تمت عملية إعادة بناء رأس المال، وازدهرت أحوال أصحاب رأس المال مرة ثانية، واعتباراً من حقبة السبعينيات من القرن الماضي نما معدل الثروة للدخل بالتوازي مع حدوث تفاوت ولا مساواة مستمرين فيه (الدخل)، واقتربت مستويات تركيز الثروات من العصر الذي سبق حقبة الحروب العالمية.

ويصف بيكيتي تلك الاتجاهات من خلال ما أطلق عليه "قانونا الرأسمالية الأساسيان". ويفسر القانون الأول التباينات في حصة رأس المال من الدخل (بشكل مغاير لمعادلة حصة رأس المال من الأجور) وهي عملية حسابية بسيطة: في كل الأوقات، فإن حصة رأس المال تساوي معدل العائد على رأس المال مضروباً في إجمالي الثروة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ومعدل العائد هو المبلغ المحقق من الدخل الكلي المتدفق إلى رأس المال- في شكل إيجارات وتوزيعات أرباح وأرباح- كنسبة مئوية من قيمة رأس المال الكلي.

تركيز الثروة

وينص القانون الثاني على أنه في الآجال الطويلة وفي ظل الظروف المواتية، يتعين على رأس المال، كنسبة مئوية من الدخل القومي، أن يعمل على اقتراب معدل الادخار القومي من مستويات معدل النمو الاقتصادي، ومع معدل ادخار يصل إلى 8 في المئة (وهو بشكل تقريبي حال الاقتصاد الأميركي) ونمو الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 2 في المئة، فإن الثروة يجب أن تزداد إلى 400 في المئة من الناتج السنوي، على سبيل المثال، في حين يهبط معدل النمو الطويل الأجل إلى 1 في المئة، فإن ذلك سيدفع بالثروة المتوقعة إلى 800 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وسواء أكان ذلك مجرد قانون أم لا، فإن الجزئية المهمة هنا هي أن تراجع معدل النمو يفضي إلى تركيز أعلى للثروة.

وفي سياق ما ذكره بيكيتي، فإن النمو السريع- الناتج عن الأرباح الإنتاجية الكبيرة أو زيادة عدد السكان- يشكل قوة تعمل على تنامي درجات التلاحم الاقتصادي، وتطرح الثروات السابقة درجة أقل من الظلال الاقتصادية والسياسية على الدخل الجديد المحقق في كل سنة. كما أن زيادة عدد السكان كمكون جوهري في النمو الاقتصادي، شكلت حوالي نصف متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي في الفترة ما بين سنة 1700 و2012. وقد عملت الزيادة السكانية في أميركا ونمو الناتج المحلي الإجمالي في القرن التاسع عشر، على تبديد قوة الثروات القديمة في حين دفعت إلى ظهور ثروات جديدة.

القيم الفيكتورية

وحسب تقديرات الاقتصادي بيكيتي فإن تراجع معدلات النمو السكاني دفعت مستويات تركيز الثروة إلى الانحسار لتبلغ مستويات العصر الفيكتوري، فمعدل الثروة إلى الدخل يصل إلى أعلى مستوياته بين الاقتصادات التي تواجه تحديات ديمغرافية مثلما هي الحال في إيطاليا واليابان (على الرغم من قدرة البلدين على تقليل مستويات التباين الاجتماعي ومظاهره من خلال سياسة ضريبية وتحويلات تستهدف إعادة التوزيع بين الطبقات). واللافت هو أن الاقتصادي بيكيتي يرى أن عالماً فيه مستويات العائد على رأس المال تفوق معدلات النمو، هو الحالة "العادية" بقدر كبير، وهي حالة تشهد تراكماً سريعا للثروات بأكبر من معدلات النمو سواء في الناتج أو في الدخل. ويشير في هذا الصدد، إلى أن ما حدث في منتصف القرن العشرين عندما تصاعدت الثروة بالتزامن مع نمو استثنائي وغياب نسبي للتفاوت واللامساواة، كانت فترة استثنائية.

قد يبدو تحقيق معدلات مستدامة للعوائد بحيث تفوق معدلات النمو أمراً غير واقعي... فإذا ازداد رأس المال يجب أن يكون العائد أدنى: فالروبوت رقم مليون يضيف درجة أقل إلى الإنتاج إذا قورن بالروبوت رقم مئة، لكن المفاجئ هنا إلى حد ما أن معدل العوائد على رأس المال ظل ثابتا ومستمراً بشكل بارز على مدى فترات طويلة (حسبما مبين في الجانب الأيمن من الشكل البياني).

تعتبر التقنية مسؤولة بشكل جزئي عن ذلك، فالابتكار ونمو إنتاجية الفرد يخلق فرصاً استثمارية حتى عندما يؤدي تراجع عدد السكان إلى انحسار نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقارب الصفر.

ويمكن للتقنية الجديدة أن تسهل عملية استبدال العمال بآلات ويسمح ذلك لرأس المال بتحقيق حصة أكبر من الدخل القومي ورفع عوائده، وفي خضم حدوث طفرة جديدة في الميكنة واستخدام الآلات محل الإنسان، فإن معدلات تركز الثروات ومستويات اللامساوة وتفاوت الدخول يمكن أن تصل إلى مستويات فلكية غير مسبوقة، وهو الأمر الذي يلقي بأعباء وظغوط ومشكلات هائلة على غرار نظيراتها التي ضربت العالم في القرن التاسع عشر.