سيرة الأميرة {ذات الهمة} (4 - 5)

نشر في 27-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 27-07-2014 | 00:02
الأمير {عبد الوهاب} يعود منتصراً إلى الحجاز

في الحلقات السابقة، واجهت الجيوش العربية بصبر مؤامرات التحالف الرومي، التي كانت تستهدف النيل من السواحل العربية تمهيداً للاستيلاء على أرض الخلافة الإسلامية، رغم أن قيادة جيوش القبائل العربية كانت تتعرض لانقسام رهيب، نتيجة ما فعله الأمير {الحارث} زوج الأميرة {ذات الهمة} قائدة الجيوش، حينما تسلل إليها ليلاً لمعاشرتها فحملت بالأمير {عبدالوهاب} وعانت آلام ولادته التي أبعدتها موقتاً عن قيادة الجيوش.
في هذه الحلقة تتمكن الأميرة الفلسطينية {ذات الهمة}، التي استعادت عافيتها، من الانتصار على أعداء الخارج، رغم آلامها وجراحها، لكنها لم تنتصر على أعداء الداخل بعد، إذ كانت جيوش العرب تعاني الانقسام والفرقة.
ما إن ودَّع أمير الجيوش {عبد الله بن سليم} الأميرة {ذات الهمة}، عائداً إلى مضاربه آخر الليل، عبر شوارع مالطة القليلة الحركة في تلك الفترة المتأخرة من الليل، حتى أحاطت به الهواجس، بسبب المعلومات والتقارير الصارمة التي اطلعته عليها الأميرة، بعدما جمعها لها عيونها وبصاصوها في أروقة الأعداء، منها بالطبع ما هو حقيقي، ومنها ما يزخر بالادعاءات، مثل تعرضها للاغتيال مرات ثلاث، وقد غمغم الأمير وهو يترجَّل عن ظهر فرسته، سحاب، متعباً:

أماني ... أوهام.

وحين انفرد بنفسه داخل مخدعه، معاوداً التفكير في قضية الخلاف بين الأميرة وعمها {ظالم} وابنه {الحارث}، بسبب إنجابها {عبد الوهاب}، قرر من فوره الكتابة إلى الخليفة المهدي واطلاعه على حقيقة الانقسام المُهدِّد للعرب، في هذه اللحظة الحرجة، التي يدق فيها الأعداء في صلف كل الأبواب.

ولم تتوقف جهود الأمير عبدالله، عند مجرد إبلاغ الخليفة، بل اجتمع في اليوم التالي بالأمير {ظالم} وابنه، لتبصيرهما بالخطر الذي لن ينجو منه أحد، فها هو الحصار البحري الذي فرضه البيزنطيون على طول الشواطئ والمدن البحرية مشرقاً ومغرباً، ما نتج عنه شل حركة الجيش العربي وقطع الطريق أمامه لتحقيق أي تقدم باتجاه العاصمة {القسطنطينية}.

وحين دفع الأمير {عبد الله بن سليم}، بالرسالة الشخصية التي تلقاها من أمير المؤمنين إلى الأمير {ظالم}، امتثل من فوره لإعطاء الأولوية القصوى، لإعلان حالة التأهب للقتال، الذي بدأ عسيراً مُجهداً لجيش المسلمين، وامتدّ ضارياً وطال أمده، بسبب تولي الملك {لاوون الأيزوري} بنفسه قيادة التحالف البيزنطي، والذي كان قد آلمه إلى حد الجنون مقتل ابنته الأميرة {باغة} التي كان يعدها لوراثة إمبراطوريته.

أما قيادة التحالف العربي فتولتها بالطبع الأميرة {ذات الهمة}، التي عادت إلى ساحات الجهاد والقتال أكثر وحشيَّة وتوثباً مما كانت عليه، وحارب عمها {ظالم} وابنه {الحارث} بفيالقهما تحت رايتها، أملاً في تحقيق نصر، يتيح إعادة طرح قضية {عبد الوهاب}، الذي وصل تجبر {ذات الهمة} إلى حد حرمانهما منه، كحفيد وابن شرعي بشهادة كبار القوم.

وكما لو أن {ذات الهمة} بدورها، تعمَّدت إطالة أطوار تلك الحرب، هرباً من مختلف صنوف الادعاءات والفتن التي أثارها في طريقها عمها {ظالم} وابنه {الحارث}، اللذان أشعلا لهيبَ حربٍ خفية، لا تخفت لها نيران، ولم تعد أحقادهما خافية على أحد حتى الأعداء وعيونهم وبصاصيهم، وكانت كلما وصلتها تدابيرهما وتقوّلاتهما عليها وعلى ابنها {عبد الوهاب}، حلّ بها الوهن، الذي لم تفلح في إحداثه أسلحة أعتى أعدائها على طول البحر الفسيح الغامض الفاصل بينهما، وكانت {ذات الهمة} تنهش جلد وجهها صارخة دون صوت:

- لعل الأعداء وحشودهم... أكثر رحمة.

رفض الهدنة

ها هي تعيش وحدتها القاتلة، مُحاطة بأخبار ما يتواتر إليها كل يوم من تلفيقات، تودي بأجساد الآلاف المؤلفة من جند المسلمين وبسطاء الناس العاديين، الذين لا حول لهم ولا قوة ـ أصلاً ـ في ما يحدث من حرب قارية تجري براً وبحراً، وتمتد رحاها بدءاً من بلاد الرافدين، حيث مقر الخلافة الإسلامية، حتى مالطة وعمورية والأندلس وتخوم {القسطنطينية} عاصمة تحالف {الأروام البيزنطيين}.

حربٌ ضَروس، أنهكت الأجيال منذ جدِّها {الصحصاح}، حتى اليوم، وربما امتدت إلى الغد، تستخدم فيها كل أسلحة الفتك والدمار التي يجريها الأعداء من الإفرنج في الأجساد العربية، أسلحة جديدة للحصد الجماعي، توصَّل إليها الأعداء وأتقنوا استعمالها، وتجريبها فينا، على مرآى من الأمير {عبد الله بن سليم}، الذي لم يملك سوى الكتابة عن تفاصيل ما يحدث من إجهاد للمسلمين إلى أمير المؤمنين، وشيوخ عرب الجزيرة مستنجداً، مما يحدث، فكلما وصلت جيوش المسلمين إلى ساحات المعارك، تعاود نيران الأعداء {الإغريقية} حصدهم أفواجاً إثر أفواج.

ولم يجد الأمير بصائب تبصره، نتيجة للتغير الذي حدث للأميرة، وما عصف بسمعتها وولادتها لـ {عبد الوهاب}، سوى مفاتحتها بالأمر، والوقوف منها على أسباب اندحار جيش المسلمين، لدرجة أن قوات {البحرية البيزنطية} المُطبقة على جزيرتهم، لا تترك لهم منفذاً، تساندها فيالق وإمدادات بلاد الغال، والتي تعالت دون استمرار الصمود العربي شهراً بعد شهر، وأسبوعاً إثر آخر.

يُضاف إلى ذلك، الهجوم الانتقامي الذي تصدَّر قيادته الملك {لاوون} شخصياً، فكان يجيء مدججاً بالجديد من أسلحة الفتك التي قوامها النيران المستعرة والانفجارات، كأن السماء تسقط حمَمَها على رؤوس المسلمين.

 لم يوقف الخطر المطوق للفيالق والكتائب العربية، لهيب الفتن والمؤامرات الداخلية، من الأمير {ظالم} وابنه ضد {ذات الهمة} ووليدها {عبد الوهاب}، على هذا النحو جاء تفكير أمير أمراء الحملة {عبد الله بن سليم} في كيفية الوصول إلى أيسر الطرق لرأب الصدع، ذاكراً لـ {ذات الهمة} ـ حين انتقل إلى مضاربها ـ أن الجميع هنا يستقلون مركباً موحداً تحت راياتها التي لم يسبق لها العودة مُنتكسة، وتساءل:

- ماذا حدث؟

فردت {ذات الهمة}، بأن الأيام والليالي، حبالى وستلد، ومن يعش يسمع ويرَ.

واستقدم الأمير عبدالله معه في زيارة إلى مضارب الأميرة ذات مرة، صبياً يافعاً، هو ابنها {عبد الوهاب}، بعدما انتقلت تربيته وإعداده كفارس، إلى مضارب أمير أمراء الحملة، ليتدرب على يد أمهر معلمي الفروسية في عصره {داود بن محمد النجار}، حتَّى أن الأمير عبد الله، وهب له ابن فرسته السوداء الأصيلة {سحاب}، وبدا {عبد الوهاب} رزيناً مجللاً بحكمة الكبار، حين ترجل عن فرسه، محتضناً أمه، طالباً منها في توسل البقاء إلى جانبها في جهادها، وهو بعد صبيّ صغير.

وفرحتْ الأميرة {ذات الهمة} إلى حد الاستبشار، حين أبدى {عبد الوهاب} رغبته في الإلمام بأساليب ما استحدثه الأعداء في هذه الحرب، من مفرقعات نارية، وأسلحة كيماوية، وغدارات، ما دفع {ذات الهمة} إلى اطلاعه على آخر ما عاد به عياروها وجواسيسها من أسلحة، عالجها {عبد الوهاب} وكأنه على معرفة يقينية بها، وانشغل بأسرارها طويلاً، تحت رعاية خبراء {ذات الهمة}، ما لفت إليه الأنظار منذ الصغر، وتواتر صيته حتى إلى آذان {الخليفة المهدي} في بغداد.

وكما لو أن {عبد الوهاب} – وهو سبب ما حل عليها من كوارث – قد أعاد إليها سكينتها، فأصبحت لا تطيق فراقه حتى في مقدمة الصدام، وموقع الرأس من جيش المسلمين، وتحققت، بعد طول اندحار، بوادر نصر متوثب زاحف، دفع بصفوف جند التحالف الرومي البيزنطي إلى التقهقر، وإعادة الإلحاح على طلب المهادنة، وهنا ضحكت {ذات الهمة} قائلة:

- هُدنة... لن تكتحل بها عيونُهم بعد اليوم.

أبومحمد {البطال}

عارضتْ الأميرة بكل قواها تقبل نوايا الروم، وكتبتْ إلى الخليفة مراراً، مصرَّة على متابعة الحرب، بما لا يتيح للأعداء فرصة معاودة إدخال تحسينات جديدة على أسلحتهم، التي أبلت {ذات الهمة} في اقتناصها من أيديهم، بالحيلة التي أبدى براعة فيها، عيّار شاب لا يعدو عمره عمر ابنها {عبد الوهاب}، يُجيد الكلام بمختلف لغات الأعداء، وتقمص شخصياتهم، {وصبغ حاله سبع صبغات}، ويدعى أبو محمد البطل، والذي حرَّف الأعداء اسمه إلى {الأبطال}.

وقد هذا النحو، تحدَّت الأميرة {ذات الهمة}، عمها {ظالم} والجميع في قبول الهدنة استجابة لمطلب الأعداء، بل إن {ذات الهمة} وجدتها فرصة للعرب، بعدما حصلوا على أسلحة أعدائهم، لكي يتجمعوا ويتدربوا على استخدامها، ودحر الأعداء بها، وأسبغت الأميرة على جنودها مُجزلة العطاء، لينكبوا في معسكرات العرب وورشهم على متابعة تطوير أساليب الأسلحة الجديدة، وتعليم جيل من علماء المسلمين ومهندسيهم وخبرائهم، وكان على رأس جنودها ابنها {عبد الوهاب}، الذي تفجّر حماسة وبطولة منذ الصغر، على وهج نيران المعارك.

تابعت الأميرة {ذات الهمة} تقدمها بفتح المدن والثغور، يرافقها ابنها الصبي {عبد الوهاب}، الذي رأت فيه خير سند وصديق تحن إلى مشورته في كثير من أمورها، فدفعت به إلى علماء ومهندسي الورش العربية، وأسرى الحرب من مخترعي جيوش الأروام، وهم الذين عاد بهم عيارها الشاب {أبو محمد الأبطال}.

لقد وجد {عبد الوهاب} في {البطال} مبتغاه، نظراً إلى ما يتمتع به، من ذكاء متوقِّد، ورغبة جامحة في المغامرة، خصوصاً أن {البطال} شهد بعينيه، كيفية تعذيب الأروام لوالده، عند اجتياحهم مضاربهم ذات ليلة، ولم ينس، كيف جرح هو حين لحقته نيرانهم، ومفرقعاتهم النفطية، ومن يومها، لم تفارق مخيلته ذكرى جثة أبيه الوادع، بلا رأس وأطراف، وبقي متذكراً جرحه الذي أحرق نصف ساقه، وبقي أشهراً يكشف عنه بطرف سرواله تحسراً لكل من صادفه.

كل ذلك فجر طاقاته في الإلمام بلغات {الروم} ورطاناتهم، وفي تغيير ملامحه، وفي المعرفة بأسلحتهم، وخططهم ومسالكهم البحرية، واحتفالاتهم الموسمية وكرنفالاتهم الماجنة وتجمعاتهم لاحتساء الشراب، ليفقدوا كل وعي وإحساس، فيسهل تصيّدهم الواحد إثر الآخر، بل إن ما ساعد {البطال} حقاً، على اكتشاف قدراته ومهاراته منذ الصغر، والده وأستاذه الأول {ثعلبة بن الحصين} الذي سبق له إسداء كل معونة حققت الانتصار لـ{ذات الهمة}.

وكان {الحصين} عياراً وبصاصاً خارق الذكاء، واسع المعرفة، مُلماً بتفاصيل {تحالف الأعداء الأروام} وخططهم وأسلحتهم ومراكز اتخاذ قراراتهم، يسرت له خبرته رعاية وتربية جيل بكامله من البصاصين والعيارين، وجامعي المعلومات، كان أبرزهم {أبو محمد البطال}، فكانت الأميرة {ذات الهمة}، تتخذ قراراتها الأخيرة في ضوء ما كان يشير به {ثعلبة بن الحصين}.

وكان العيار العجوز {ثعلبة بن الحصين}، مدبر المكيدة التي تم على أساسها اقتحام آخر حصون وقلاع {مالطية} التي صمدتْ أمام الجيش العربي طويلاً، وهو الحصن الذي احتمت به الأميرة {باغة}، إذ أوقعت الظروف كتيبة من جند الأروام العائدة إلى الحصن، تقود أمامها كتيبة من أسرى المسلمين، وكانت خطة {الحصين} هي قتل قادة الأروام وارتداء ملابسهم ومتابعة المسيرة إلى الحصن، الذي ما إن انفرجت بواباته منفتحة تهليلاً بالنصر، حتى تم لـ{ذات الهمة} وكتائبها، الاستيلاء على الحصن وقلاعه الملحقة، والوصول إلى مخدع الأميرة {باغة}.

بشائر النصر

بمجرد لقاء الأمير {عبد الوهاب} بالعيار الشاب {البطال}، نبتت على الفور بذور صداقتهما وأينعت، وعمل الاثنان كفريق متكامل فتولى {البطال} القيام بالتجسس وتفرغ الأمير {عبد الوهاب} لدراسة معلوماته ووضع خطط المواجهة.

برع {البطال} في مهامه وأولها تصيد أسرى الأروام، واقتيادهم إلى سفن المسلمين المستترة الرابضة، تعود بهم وبأسلحتهم الجديدة في جنح الظلام إلى مضارب المسلمين، كما تفنن في استخدام البنج والمساحيق أو الشموع المنومة، ليتصيد فرائسه في وضح النهار، بعدما يبدأ الحديث بلغاتهم، وتوصل إلى معرفة مشكلاتهم ومحاولته اقتراح الحلول لها، وتقديم هدايا المشرق لهم.

لذلك، أغدقت {ذات الهمة} على {البطال} وأتباعه من العيارين العطاء، نظراً إلى أهمية خدماتهم المقدمة إلى جيش المسلمين، سواء ما تعلق منها بأدق المعلومات والخطط الغادرة ضد الجيش العربي، التي كان يبدع في وضعها الأعداء أو جلب الأسرى من أبرز مهندسي أسلحة الحرب الجديدة ووسائلها وأسرارها الدفينة، من داخل معسكرات وورش صنع أسلحة {الأروام} المستمرة في التقدم والتحسن لإحراز نصر سريع، في مواجهة تقاليد الحروب العربية، التي تستلزم المواجهة.

من هنا جاءت رغبة {ذات الهمة} في امتلاك زمام المبادرة من أيدي أعدائها، كلما سنحت لها الفرصة في الاستحواذ على أسرار إنتاج سلام جديد، سواء كان نارياً أو كيماوياً غازياً، يجيء به {البطال}، كعادته، إلى مضارب صديقه الوفي الذي أصبح ملازماً له كظلّه، وهو الأمير {عبد الوهاب}.

وما إِنْ تحقق النصر لجيش المسلمين، بقيادة {ذات الهمة}، ورفعت الرايات والبيارق الخفاقة على معظم المدن والثغور المناوئة، التي أعلنت العصيان والتمرد والتحدي لخليفة المسلمين قبل ذلك، حتى هرع، ملوك الأروام وبطاركتهم على عتبات الخلافة، طلباً للاستسلام والمهادنة، التي رفضتها، على الدوام، {ذات الهمة} بحجة عدم إعطاء فرصة للأعداء لشحذ النصال من جديد، إلا أنها لم تجد في النهاية بداً، سوى الامتثال لما يراه أمير المؤمنين وكبار وزرائه، بعدما قبل الأروام الامتثال وفرض الجزية، ودفع خسائر الحرب كاملة غير منقوصة، وهكذا فرضت الهدنة عليها فرضاً.

نُكِّست النصال، وعمَّت أفراحُ النصر الكبير مختلف الأقوام العربية والرومية، واستراح الجميع خلوداً للسلم والاسترخاء، حتى اندلعت حرب جديدة، أشد ضراوة ضد {ذات الهمة} وابنها {عبد الوهاب}، إذ جدد عمها {ظالم} وابنه {الحارث}، مطلبهما المؤجل، حول طرح قضية {عبد الوهاب} على حكماء الحجاز وبغداد لحسم الأمر، من دون إعطاء {ذات الهمة} الوقت الكافي، لترطيب جراحها الثقيلة من أثر المعارك الضارية التي خاضتها، ولم يجد أمير الحملة {عبد الله بن سليم} حجة يسوقها، سوى ضرورة الامتثال لما اتفق عليه.

ولم تجد الأميرة {ذات الهمة} مهرباً، أمام إصرار الجميع على إعادة {عبد الوهاب} إلى مضارب الأهل، حتى والدها {مظلوم} ساند أخاه {ظالم} وابنه، وزاد الطين بلة إصرار {عبد الوهاب} نفسه، على الرحيل إلى مضارب الأهل في مكة والحجاز ونجد، ووجدتها {ذات الهمة}، فرصة، فآثرت الرحيل، عقب الانتهاء من تنظيم أمر البلاد المفتوحة، وشحن السبايا والآلاف من رؤوس الأسرى، وكنوز البلدان المفتوحة إلى عاصمة الخلافة.

في حضرة الخليفة

يوم الرحيل، استعدّت المراكب والسفن، المكدسة بالسبايا، والجنود الزائرين لأهاليهم وثروات الحرب وعينات الأسلحة الجديدة، واعتلت هي وابنها {عبد الوهاب} وأبوها سفينتها، وأقلعت المراكب العربية عائدة إلى مقر أمير المؤمنين، تسبقهم الأخبار بالنصر وفرض الجزية، فما إن دخلوا عاصمة الخلافة، حتى فوجئوا بها، مزدحمة كيوم الحشر، بالآلاف المؤلفة، التي قدمت من كل صوب، لاستقبال {ذات الهمة} وابنها {عبد الوهاب}، محملين بالعروش والتيجان ونفيس الجواهر والهدايا، وصفوف السبايا والأسرى.

ضربوا مضاربهم على مقربة من قصر أمير المؤمنين المهدي والد {هارون الرشيد}، الذي سارع لاستقبالهم والترحيب بـ {ذات الهمة} و{عبد الوهاب}، متسائلاً عما دفع بهم إلى العودة على هذا النحو، من دون أن تغفل عينه من تحسس أمر الإسراع بالمجيء بعدتهم وعتادهم، وحسم قضية {عبد الوهاب}، إلى أن انبرى الأمير {ظالم} وابنه، فطرحا أمر الخلاف حول شرعية زواج {ذات الهمة} من {الحارث}، ثم التطرق إلى انتماء {عبد الوهاب}، ابنهما شرعاً وبشهادة الخليفة.

وكان الخليفة وجد لـ {عبد الوهاب}، الشاب، مكاناً رحباً في قلبه، حتى أنه قربه وباركه، وأجلسه إلى جانبه على مرأى من الجميع، وبدت مؤامرة التقليل من أهمية {ذات الهمة} واضحة، حين تدخل كبار وزراء بلاط الخليفة إلى جانب عمها وقبيلته، وعلى رأسهم الوزير مصعب، والفضل بن الربيع، إلا أن الخليفة استمع مطولاً إلى وجهة نظر {ذات الهمة}، وتفاصيل ما عانته، في السنوات الأخيرة، من تآمر وفتن وصلت إلى مضربها ومخدعها.

ووصل الأمر بالخليفة إلى حد الغضب، والاقتناع بأقوال، أم المجاهدين، والأمر بإيداع عمها {ظالم} وابنه {الحارث}، غياهب سجنه الملحق بالقصر، وأنعم الخليفة المهدي، على ولدها {عبد الوهاب} أعلى درجات الإمارة، فنصبه أميراً لبني كليب ووحيد وعامر.

ولكن ما إن انقضت أيام {ذات الهمة} في بغداد، وتحرك ركبها بصحبة الأمير {عبد الوهاب}، إلى مضارب الأهل بالحجاز ومكة، حتى اندلعت ألسنة الفتنة ونسج الأقوال الملفقة لـ {ذات الهمة}، وشوكتها الضاربة، تخوفاً من أن تشهرها يوماً في وجه الخلافة ذاتها، مستعينة بجندها وعتادها ومصادر قوتها، التي لا ينضب لها معين، وأصبحت مهددة لأعظم الإمبراطوريات رسوخاً.

ونجحت الفتن، التي شارك في صياغتها وتنميقها وزراء البلاط، وحجاب الخليفة ومقربوه في تحويل غضب الخليفة المهدي، عن عمها {ظالم} وابنه {الحارث} والإفراج عنهما، وإعادة تكريمهما، وهكذا لاحقت العيون الحاسدة والحاقدة، موكب {ذات الهمة} والأمير {عبد الوهاب} وهما في طريقهما إلى الحجاز.

سيرة الأميرة ذات الهمة (3 - 5) قائدة الجيوش تلد الأسد الوثاب الأمير عبد الوهاب

سيرة الأميرة ذات الهمة (2 - 5) أم المجاهدين تحترف الفروسية وتحاصر جيوش الروم

سيرة الأميرة ذات الهمة (1 - 5) الصحصاح يُحاصر عاصمة الروم... والوليد يخفي الوصية

back to top