عاد الإرهاب يجتاح المجتمعات العربية بصورة أكثر ضراوة ووحشية بعد ثورات الربيع التي أسقطت هيبة الدولة والقانون والأجهزة الأمنية، انظر إلى ما يحدث في العراق، المئات من الأبرياء يذهبون ضحايا الإرهاب الذي توحش إلى حد تلغيم جثث الأموات وتفجير المساجد والأضرحة ومجالس العزاء، وتأمل ما يحصل في سيناء حيث يواجه الجيش المصري وأجهزة الأمن إرهاباً ضاريا بلغ من الإجرام أن استهدف كنيسة الوراق وأسقط قتلى وجرحى.
وزير خارجية ليبيا صرح أخيراً بأن 16 ألف مجرم خرجوا من السجون ويعدون أنفسهم ثواراً، وتحولت ليبيا إلى دولة ميليشيات متصارعة، وفي تونس يسعى الإرهاب إلى تفويض مقومات الدولة وجر البلاد إلى الفوضى، وما زال الإرهاب في اليمن يفسد ويعربد، ورغم الضربات الأمنية فإن "القاعدة" في العراق نشطة وتهدد اليوم باجتياح الأنبار.عاد الإرهاب أكثر توحشاً وإجراماً وفتكاً، ما زال الجسم الخليجي منيعاً ومحصناً أمام المد الإرهابي لكنه أصبح يشكل هاجساً للخليجيين، كتب الصديق د. أحمد عبدالملك مقالاً قيماً بعنوان "الإرهاب هاجس جديد لمجلس التعاون" شخّص فيه الفكر الإرهابي وسبل مواجهته، ورأى أن الإجراءات الأمنية والتشريعية يجب أن تواكبها وتعاضدها إجراءات تحد من تغلغل الفكر المتطرف ولغة التحريض في الفضائيات والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الدينية.وأذكر أنه في أعقاب الإرهاب الذي استهدف مسرح المدرسة الإنكليزية في الدوحة قبل 8 سنوات كتبت مقالاً "الإرهاب هاجس الخليج الأعظم" نبهت إلى ضرورة المواجهة الفكرية للإرهاب لتحصين المجتمع وتقوية مناعته أمام هذا المرض الفتاك، الذي يغزو المجتمعات، دعونا نتساءل: ما أسباب انتشار الإرهاب في المجتمعات العربية؟!الإرهاب في الأساس نتاج فكر منحرف كما قال الأمير نايف رحمه الله تعالى في مؤتمر مكافحة الإرهاب بالرياض، هذا الفكر هو فكر التطرف الديني الذي لازم المجتمعات العربية على امتداد التاريخ لكنه كان مهمشاً، كان هناك نوع من التشدد الديني في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، عالجه بحكمته لكنه كان مقصوراً على أفراد لا تنظيمات إلى أن كانت واقعة التحكيم، بداية انشقاق الخوارج وخروجهم المسلح على الدولة الإسلامية رافعين شعار "لا حكم إلا لله"، الذي استمد منه سيد قطب "الحاكمية" وكفَّر المجتمعات والأنظمة، فالخوارج أول تنظيم إرهابي مسلح لأنه لم يكتف بتكفير الخصم السياسي إنما استباح دمه وماله وعرضه، وهو ما تفعله التنظيمات الإرهابية المعاصرة.التطرف كالتعصب، وليد عوامل داخلية ترجع إلى: تربية خاطئة، وتعليم أحادي مغلق، وخطاب ديني محرض على الكراهية، وإعلام يصور العالم تآمراً على المسلمين، وإذا أردنا معالجة التطرف الديني فعلينا مراجعة أساليب التنشئة المبكرة لأن أكثر المتطرفين كما دلت الدراسات التربوية والنفسية، ما هم إلا نتاج تربية غير سوية، وكذلك مراجعة مناهج التعليم وأساليب التدريس والبيئة التعليمية بأسرها لا مجرد تطوير المناهج والكتب، ويجب إبعاد المتشددين عن الحقل التعليمي، وضبط المنابر الدينية وتحريم استخدامها في غير أغراضها المشروعة كتوظيفها لخدمة أجندة حزبية أو الترويج لأفكار متشددة، ويجب أن تكون بيوت الله منابر جامعة لا مفرقة، منابر لجميع المسلمين بغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية أو المذهبية، تؤكد القواسم المشتركة وتنمي القيم والمبادئ الإسلامية العامة.ويجب تطوير الخطاب الديني نحو الانفتاح على الآخر وعلى معطيات العصر وعلى القيم الإنسانية المشتركة، ويجب الحد من نفوذ السلطة الدينية وكسر وصايتها على المجتمع وتضييقها على الحريات والمناشط الإنسانية، ويجب ضبط الفتاوى المكفرة والمحرضة والمشككة في عقائد الآخرين، ويجب إحياء النزعة الإنسانية في الخطاب التعليمي والديني والثقافي والإعلامي.وإذا كنا جادين في معالجة التطرف الديني فيجب تجفيف منابعه الأولى وقطع جذوره الغائرة في التربة المجتمعية، فالتطرف الديني أساسه عقيدة غلابة تدفع صاحبها إلى الاعتقاد أنه يملك الحق وحده وأن الآخرين على بطلان، وليته اكتفى بهذا القدر، إنما تدفعه هذه الحقيقة إلى سلوك عدواني ضد هذا الباطل الذي يراه بوصفه جهاداً واستشهاداً.إذا رجعنا إلى تاريخ الملل والفرق، وجدنا أن "عقيدة الفرقة الناجية" هي الأساس في تفرقة المسلمين واعتقاد كل فرقة أن الجنة لها وحدها من دون الآخرين، وللأسف فإن هذه العقيدة استمرت تفرق المسلمين حتى اليوم وتسربت إلى مناهجنا وخطابنا الديني، هناك مدارس وجامعات تقوم على "عقيدة الفرقة الناجية" يتخرج منها الشباب وهم على اعتقاد جازم بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة، وأن غيرهم مشكوك في عقائدهم وإسلامهم، وهذا هو أساس البلاء.التطرف يبدأ وينشأ في العقول، أولاً، كفكر عدواني، ويترسخ في نفسية قلقة متوترة كارهة للآخرين، ثانياً، ثم يترجم نفسه في سلوك عدواني، وثالثاً، نحن لا ننكر أن عمليات التفجير تحدث لدى كل الشعوب لكن هذا النوع من التفجير الوحشي الذي طال المساجد والأضرحة والمزارات والمقابر ومجالس العزاء والأسواق ومترو الأنفاق والمدارس، لم يعهده العالم إلا عندنا وعلى أيدي شبابنا المندفع إلى تفجير نفسه اعتقاداً أن ذلك أسرع طريق إلى الجنة ولقاء الحور العين!بطبيعة الحال لم يكن لهذا التطرف أن يتنامى ويستفحل لولا البيئة المجتمعية الحاضنة التي رأت ومازالت، أن السلوكيات العدوانية للإرهابيين، هي أعمال جهادية!هل رأيت لدى أي شعب من شعوب الأرض من يمجد إرهابياً عريقاً في الإجرام قتل الآلاف من العراقيين لمجرد أنه قاوم الأميركيين؟! لا يزال الخطاب المتطرف يكسب عقولاً ومشاعر ولا يمكن الحد من نفوذه إلا بتفكيك بنيته، وهذا بحاجة إلى استراتيجية متكاملة توظف فيها كل الموارد وتستنفر فيها الطاقات والجهود لمواجهة هذا التطرف الذي يشكل مرضاً مستعصياً ومدمراً للعقول والنفوس والمجتمعات، لا يمكن مواجهة التطرف الديني إلا بتشريعات حازمة وخطوات عملية، يجب إعلان حرب شاملة على مدارس التكفير ودعاوى التحريض ومحاسبة أئمة التطرف ومنعهم من تصدر المنابر. إن معركة الإرهاب هي معركة العقول والقلوب التي يجب كسبها وحمايتها من الوقوع في براثن المرض الإرهابي.* كاتب قطري
مقالات
الإرهاب ثمرة الفكر المتطرف
28-10-2013