زمنُ جوازِ السفر لم ينفدْ بعد، ولكنْ نفدَت الصفحات. لي أن أرسلَه بالبريد لتجديده، ولكني فضلتُ الذهاب بنفسي إلى دائرة الجوازات: استمارة وصورتان، وتسلمته بعد ساعاتٍ أربع قضيتُها أقرأُ في مقهى إيطالي. في البيت تصفحته بلا مُبالاة أحسستُ أني افتعلتها عن قصد. لامبالاة البريطاني الذي يتسلم جوازه بالبريد، وإذا سافر به لا تعني الدقيقة التي يتوقف فيها عند مكتب مفتش الجوازات شيئاً يمسُّ جهاز مناعته العصبي. أعني أن أسلاك هذا الجهاز لا عهد لها بالارتجافة الكهربية التي أعرفها عن خبرة.

Ad

جواز سفري البريطاني هذا لدي منذ قرابة ثلاثين عاماً. سافرتُ به مئات المرات إلى أنحاء شتّى، ولكني لم أفلتْ مرة واحدة من تلك الارتجافة في أسلاك جهازي العصبي، الذي يخلو من المناعة، وأنا أواجه مكتب مفتش الجوازات. واضح أني لا أتحدّث عن خبرة محض شخصية. ففقدان المناعة في الجهاز العصبي لحظة مواجهة مفتش الجوازات يكاد يتوزع على كل مواطني العالم العربي، في بلدانهم أو منافيهم.

مرة في مطار برلين، بعد انتهاء مؤتمر لأدباء المعارضة في المنفى زمنَ صدام حسين، كنت أقف وراء شاعر عراقي صديق في طابور عراقيين باتجاه مفتش الجوازات. شاء أحدهم ان ينتفع من تجمعنا في الطابور ليوزع علينا كتاباً أصدره حديثاً. أعطاني نسختين لي وللشاعر الصديق الذي أمامي. ولكن من سوء حظ الشاعر الصديق انه كان أمام مكتب مفتش الجوازات لحظة لكزته من الخلف وأعطيته الكتاب. لاحظت ارتجافته، وكيف تفشى لون الكركم في بشرة وجهه. بعد أن انتهينا جاءني غاضباً، ناشف الريق وهو يصرخ في وجهي: «يعني لم تجدْ لحظة أخرى لتسليمي الكتاب إلا لحظة تسليمي الجواز؟».

الجملة الاستنكارية منطقية، ولكن داخل جهاز صديقي العصبي، الخالي من المناعة. يحتاج المرء إلى زمن ليفهم طبيعة علاقة تسلّم الكتاب في لحظة تسليم جواز السفر. تسلّم كتاب شاهدٌ على ارتكاب معصية. تسليم جواز السفر محاولة طلب غفران. الشاعر والكتاب داخل كيان صديقي هوية مثيرة للريبة، يجب ألا تبين ملامحها أمام ممثل السلطة. الجهازُ العصبي الخالي من المناعة عرضةٌ للانهيار في أي لحظة تصله فيها ذبذباتُ السلطة المتلصصة، عراقية كانت هذه الذبذبات أو عربية أو ألمانية. وجواز السفر مشحونٌ دائماً بذبذبات السلطة تلك، حتى وهو مطروح على طاولة البيت. السلطة فيه ذات سمة عالمية، إن لم تكن كونية. فكم تصلني منه ذبذبات دُفنت فيه من مطارات عربية وعالمية. وقد تصلني ذبذبات ذعر ذات بعد ميتافيزيقي، تُقبلُ من الكواكب والمجرات، وما وراءها.

معظم الذين هجروا العراق زمن صدام حسين كانوا هاربين، دون جواز سفر أو بجواز مزور. لم يكن لهم الحق حتى بوثيقة طلب غفران. لقد دفنوا الذعر في كيانهم، ثم أفرغوه كاملاً دون نقصان في جوازات السفر الأجنبية، التي حصلوا عليها في منافيهم. شاعر معروف كان لا يكف عن اتهامهم بأن جوازاتهم هذه ليست إلا هوية انتسابهم الاستخباراتي. ولك أن تتخيل أي طاقة كهربية يمكن أن ينطوي عليها هذه الجواز، الذي جددته قبل يومين.ألا يحق لي، ويستحق هو، أن أجد فيه فرصة للتأمل، تتجاوز حدود مهمته في السفر؟

وإذا ما انتصفَ الليلُ

واسترختْ قدّامي فوق المقعد

سنواتُ العزلةِ والتيه،

أخرجتُ جوازَ السفر

وقضينا الليلَ نحدّقُ فيه.