لمحت اسمه، عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي، ووجدتني، فجأة، أستعيد اللحظة التي شاهدت فيها فيلماً روائياً قصيراً أثار دهشتي لأن مخرجه خالف المعتاد عليه في الأفلام الروائية القصيرة، وقدم فيلماً جمع بين السحر والعذوبة والرؤية الفلسفية، والأهم أنه كسر القواعد السائدة في السرد.

Ad

يحمل الفيلم عنوان {القرار}، يبدأه المخرج طارق الحايس بمجموعة من {الكادرات} الجمالية المتفرقة لصحراء نائية لحظة الغروب، ونرى قضبان سكك حديد في الأفق الممتد، ومنها إلى {فلاش باك} مباغت نرى خلاله طفلاً يجري في الحقول وسط الزرع والنخيل الباسق، الذي يقودنا إلى يقين قاطع بأننا أمام طفل جنوبي النشأة. ومع الأسئلة التي لا تنتهي، يستعير المخرج عبارة {كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة} للصوفي محمد بن عبد الجبار بن حسن النفري الملقب بالنفري ليجعلها «كلما اتسعت الأسئلة ضاق العالم رغم اتساعه»، ونعرف أن الطفل كثير الأسئلة اسمه «مصطفى»، وبمقتل أبيه يُفارق مرحلة البراءة، ويُصبح عليه، كأقرانه في الصعيد، أن يتحمل المسؤولية كاملة.

هنا لا بد من أن يتملكك شعور خفي بأن ثمة ذاتية في الطرح، وأن المخرج يملك عيناً قادرة على التقاط مواطن الجمال، حيث الطبيعة الخلابة، وموهبة ملحوظة في توظيف الصورة لتحقيق هدف درامي؛ فالوقوف خلف الحبال يٌشعرك أن الطفل سجين التقاليد، والجدران الجافة تُحيلك إلى الفقر المُدقع الذي يعيش في محيطه، وقسوة البيئة التي فرضت عليه أن يقتل من أجل الحياة؛ ففي أعقاب مقتل والده كان عليه، وهو طفل، أن يتدرب على إطلاق النار ليثأر له، بناء على رغبة جده، وإلا نال إهانة الجميع لكنه ألقى بالمسدس في النهر وفر بجلده.

يعود المخرج من «الفلاش باك»، ونرى «مصطفى»، بعد ثلاثين عاماً، داخل سيارة تمخر عباب الصحراء، بكثبانها الرملية  وغبارها، ومجدداً يعود المخرج إلى توظيف عناصر البيئة من حوله؛ فها هو جرس الإنذار الذي ينطلق آليا قبل قدوم القطار يُحذره من المضي في طريقه، وكأنه يُطالبه بعدم الانسياق وراء عادة الثأر المقيتة، فيما توحي الموسيقى بالغموض والترقب، في حين تبدو رحلة «مصطفى» في السيارة كما لو كانت رحلة اكتشاف للذات، والحوار مع الآخر، عقب أن أخذته الشفقة برجل يقف على الطريق، وظن أنه يقدم له خدمة كبيرة عندما دعاه للركوب معه، قبل أن يفاجأ، في أول لحظة خلاف وغضب، بأنه ثقيل الظل، لزج الشخصية ومضطرب الفكر لا يتورع عن إشهار السلاح في وجهه، وتهديده بأن يُطلق الرصاص عليه إذا لم يستجب له. ويغير طريقه، ويتخذ مساراً إجبارياً مغايراً، وكأننا حيال نوع من الحوار المجتمعي قريب الصلة بما نواجهه على أرض الواقع.  

هنا يبدو الحديث عن الغابة المزروعة بالحشيش، التي يحلم الشريك الغامض بالوصول إليها، نوعاً من «الفانتازيا» والغرائبية،  لكنه يعكس قناعة بأن «أسعد لحظة في الحياة هي لحظة الجنون»، وسرعان ما يتبادل الرجلان التهديدات والاتهامات، ويُدرك المتابع لهذا الفيلم الرصين أن «مصطفى» يواجه نفسه، وأنه كرر نفس ما فعله والده، الذي رفض تنفيذ وصية أبيه، وأبى أن يقتنع أن رصاصة واحدة تكفي لأن يقتل بها ألد أعدائه ليعيش هو.  

يتذكر «مصطفى»، وهو في السيارة التي لم يغادرها، سنوات طفولته، ويمسح دموعه متأثراً، وتحترم الكاميرا دموعه فتذهب إلى الصحراء المترامية. لكن الفيلم ينتهي بالسؤال الأكثر أهمية: «ما العدو الذي كان يعنيه جده؟». ويبدو المخرج طارق الحايس، الذي كتب القصة والسيناريو والحوار، غاية في الجدية وهو يبحث عن العدو الحقيقي للإنسان عموماً، وفي تناوله لقضية فلسفية برؤية فنية جمالية خففت كثيراً من وطأتها، فضلاً عن تشكيل لغة بصرية جديدة على الشاشة، عندما اختار أن تدور غالبية أحداث فيلمه في الصحراء، وداخل سيارة، من دون أن يُصيب المشاهد بالملل أو الضجر. وذلك بدعم مادي من «تليسكوب فيلم»، وفني من مدير التصوير رضا السيد وفنان المونتاج أحمد طنطاوي وواضع الموسيقى محمود كمال، بالإضافة إلى محمد العمروسي الذي جسَّد شخصية «مصطفى»، علاء قوقة الذي أدى دور الرجل الغامض، وعبد العزيز محمود الذي قدم شخصية «الجد». غير أن الحديث عن الدعم لا ينتهي من دون التنويه إلى دور المركز القومي للسينما، من خلال وحدة السينما المستقلة التي أتاحت الفرصة للمخرج طارق الحايس، وغيره من مواهب تعاني كثيراً في البحث عن دعم، واحتفت برؤاهم الفنية والفكرية. لكن دور المركز القومي للسينما يكتمل بتوسيع رقعة عرض الأفلام التي ينتجها، وضمان وصولها إلى قاعدة جماهيرية عريضة، وهو الهدف الذي لم يتوافر، في رأيي، للأفلام التي يُسهم المركز في إنتاجها، فباستثناء مشاركتها في المهرجانات، وتنظيم بعض العروض الخاصة التي تخاطب جمهوراً من الصفوة والنخبة، تظل الأفلام حبيسة المخازن والأدراج، حتى تأكلها الفئران والقوارض كما تأكل حشرة العتة البطاطين والملابس!