مديحة يسري... سمراء النيل: حسين صدقي «حريص» ومحمد فوزي «أبو الكرم» (16)

نشر في 14-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 14-07-2014 | 00:02
ظلت النجمة القديرة مديحة يسري حريصة على النجاح، رغم تعدد عثراتها وكثرة المعوقات التي صادفتها، من وفاة حبيبها وزوجها أحمد سالم، إلى بقاء فيلمه الأخير «دموع الفرح» الذي لم يكمل تصويره، معلقاً في يد مساعده فطين عبد الوهاب، إلى أن استكمله وبات مطلوب منها أن تعد لافتتاحه، في حفل كبير، ربما استطاعت من خلاله تسديد ما تبقى على «الدنجوان» من ديون.
مديحة التي تستكمل رواية ذكرياتها في هذه الحلقة، تعلمت كيف تدير حياتها بنجاح، ما ساعدها على التخلص من أزماتها سريعاً، وأولاً بأول.
رغم أن السينما المصرية في الأربعينيات من القرن الماضي، كانت غنائية استعراضية في أغلبها، لا سيما مع نجاح أفلام أشهر نجمات الغناء، في مقدمهن أم كلثوم وأسمهان ثم ليلى مراد، صباح، شادية، نور الهدى، وفي ظل تألق الراقصات تحية كاريوكا، سامية جمال، هاجر حمدي، نعيمة عاكف، كيتي، فإن سمراء النيل مديحة يسري اقتنصت مكانتها الخاصة على الساحة، بعيداً عن أي دور «تكميلي» للمشهد، بتعبير أدق كان لها حضورها المميز الذي أهلها إلى تصدر الأفيش ومشاركة أبرز نجوم السينما آنذاك عن استحقاق، باختصار كانت مديحة إحدى أكثر نجمات جيلها ترشحاً للبطولات.

لم تكن مديحة انتهت من تصوير فيلمها «فاطمة وماريكا وراشيل» مع المطرب والممثل محمد فوزي، عندما فوجئت بالفنان حسين صدقي يزورها في البلاتوه صباح أحد الأيام، وقبل أن ينفرد بها ألقى التحية على فوزي والمخرج حلمي رفلة وبقية العاملين في الفيلم.

صدقي: وحشاني يا مديحة... سعيد بأخبارك ونجاحك.

ابتسمت مديحة في خجل قائلة:

ربنا يخليك يا أستاذ حسين والحمد لله أني عند حسن ظنك.

رغم أن مديحة التقت صدقي قبل ست سنوات في فيلم «العامل» (1943) باكورة تجاربه كمنتج، بالإضافة إلى بطولته للفيلم، فإن علاقتهما لم تتجاوز حدود الزمالة، خصوصاً بعد منع عرض الفيلم، ما اعتبرته مديحة سوء حظ صادفها في بداية مشوارها، لذا لم تتوطد علاقتهما، وظلت على حالها، مجرد لقاءات عابرة تدبرها المصادفات، مغلفة بالود والاحترام.

صدقي: أنت قدامك قد إيه في الفيلم هنا؟

مديحة: تقريباً أسبوعين، طبعاً ده لو محصلش أي حاجة تعطل التصوير.

صدقي بهدوء: لا بإذن الله الأمور كلها تمشي على خير وتخلصوا الفيلم وينجح ويكسر الدنيا كمان.

ابتسمت مديحة وقالت وهي ترفع يدها إلى السماء:

يسمع من بقك ربنا، إحنا والله كلنا تعبنا جداً، وبإذن الله ربنا يكمل تعبنا بالنجاح.

صدقي: إن شاء الله...

ثم تابع قائلا: أنا بقى يا ستي عاوزك في فيلم تاني معايا ومن إنتاجي وإخراجي كمان ولا أنت مش عاوزة تشتغلي معايا تاني بعد اللي حصل في «العامل».

مديحة باندهاش: وأنت ذنبك إيه يا أستاذ حسين، ده نصيب وكل شيء قسمة ونصيب، عموماً أنا تحت أمرك يا أستاذ طبعاً.

ثم استدركت قائلة: هو فيلم إيه ومن تأليف وإخراج مين؟

صدقي: «المصري أفندي» من إخراجي وتأليف محمد كامل حسن، كاتب كويس قوي كان بيشتغل محامي بس وقع في عشق السينما كممثل ومخرج ومنتج.

مديحة: عارفاه يا أستاذ حسين، هو فعلا مؤلف شاطر وأفكاره جديدة وبيكتب عن شخصيات وأحداث ما حدش غيره بيهتم بيها.

صدقي: عال قوي يبقى حبعت لك القصة وأكيد حتعجبك.

كلاكيت تاني مرة

أرسل صدقي السيناريو إلى مديحة، وبالفعل - في أقل من يومين - كانت قد انتهت من قراءته وحسمت قرارها بالموافقة عليه، إذ كانت تصطحب معها السيناريو إلى البلاتوه لتقرأه خلال فترات الراحة، وتستكمله في المساء في منزلها، ما ساعدها على إنجازه سريعاً والاستجابة لطلب حسين صدقي الذي كان يرغب في معرفة موقفها لتحديد موعد التصوير، فاتصلت به وأخبرته بموافقتها وطلبت منه مهلة يومين لتكون قد انتهت من تصوير فيلمها مع فوزي {فاطمة وماريكا وراشيل}.

تدور أحداث {المصري أفندي} حول محمد، مهندس فقير تنجب له زوجته أبناء، فيتمرد على الفقر ولا يقنع بالسعادة التي وهبها له الله بالزوجة الصالحة والأبناء، وفي لحظة غضب يتمنى على الله أن يمنحه المال ويأخذ منه أبناءه، بعدها يعرض عليه صديقه {إسماعيل} أن يشاركه في مشروع إسكاني كبير، فيسعد به المصري ويعمل بجد لتحقيق آماله، فتبدأ رحلة الثراء الذي يتحقق سريعاً، ولكن، في الوقت نفسه، يختفي ابنه حسن، وتضيع كل جهوده في البحث عنه، وقبل أن يفيق من صدمته إذا بطفله الثاني يموت وتصاب ابنته بالشلل، حينها يدرك محمد المصري قيمة السعادة، وأنها ليست بالمال ولكن مع الأبناء والأسرة السعيدة.

يمقت المصري أفندي المال الذي كان يسعى إليه بأي ثمن معتبراً إياه طريق السعادة، وتمر السنوات ويلتقي أحد موظفي الشركة الذي يذكره بشبابه، فهو موظف فقير متزوج من امرأة فاضلة يحبها وأنعم الله عليهما بالأولاد، إلا أن الموظف يتمرد على فقره ويتمنى المال والثراء فيهمل عمله منتظراً فرصة ثرائه، وتسوقه الأقدار إلى صاحب الشركة المصري أفندي، الذي يعرف قصته فيلومه على تمرده ويحكي له ما حدث له في شبابه، وهنا يكتشف أن هذا الموظف الشاب ما هو إلا حسن ابنه الضائع منذ زمن، فيحتضنه ويمنحه مبلغاً من المال ويحذره من تمرده على فقره لكي لا يلقى مصير والده نفسه، فيقتنع حسن ويعرف أخيراً أن السعادة ليست في المال والثراء.

الطريف أن مديحة قدمت عام 1956 فيلم {معجزة السماء} مع الفنان محمد فوزي وكان من إخراج عاطف سالم، الذي بدأ حياته الفنية ممثلا في فيلم {ماجدة} قبل أن يعمل مساعداً للمخرجين ثم مخرجاً شهيراً، أثرى السينما المصرية بأفلام بارزة في مقدمها {أم العروسة}، {الحفيد}، و{الحرمان} وهو من أوائل الأعمال التي طرحت الدراما النفسية، كذلك {جعلوني مجرماً} الذي نجح في رفع السابقة الأولى من الصحيفة الجنائية للسجين الجنائي في مصر، واكتشف نجوماً ونجمات لعل أبرزهم نبيلة عبيد.

تشابهت رسالة فيلم {معجزة السماء} ومضمونه العام مع {المصري أفندي}، تحديداً الحكمة الخالدة بضرورة {القبول بالواقع بوصفه أفضل من التعلق بالأحلام والأوهام}، أو بتعبير آخر {لو اطلعتم على الغيب لأخترتم الواقع}، إذ تدور أحداثه حول مطرب شاب تنشأ بينه وبين فتاة قصة حب، يتزوجان بعدها رغم فقره، غير أنها تنجب له أبناء فيجد صعوبة في الوفاء باحتياجاتهم، ويرافقه إحساس بأن زواجه هو السبب في عدم نجاحه كمطرب، ويزيد الطين بلة تدخّل حماته في حياته، فيهجر منزل الزوجية ناقماً على حياته، ويقابل شيخاً وقوراً ينصحه بقبول نصيبه من الحياة راضياًَ إلا أنه يرفض في ثورة غضبه.

وبينما هو يسير في الطريق تصدمه سيارة، وفي لحظات الغيبوبة يرى نفسه وقد صعد سلم المجد والشهرة كمطرب، ويصادف فتاة يهيم عشقاً بها، إلا أنه يكتشف أنها مخطوبة لشخص آخر تحبه، وعبثاً يحاول جذبها نحوه، إلا أنها تتمسك بخطيبها، غير مبالية بشهرة هذا الفنان وثرائه، فراح يطاردها في كل مكان، وفي ليلة زواج حبيبته يخنقها ليسجن بعدها، ثم يفيق من غيبوبته، فيدرك أن ما قدر له كان أفضل من مصير في علم الغيب، فيعود إلى بيته وزوجته ويطلب من الجميع المغفرة.

لحظة وفاء

بعد أربعة أشهر من رحيل الفنان أحمد سالم، استكمل المخرج فطين عبد الوهاب، مساعده في الفيلم، آخر أفلامه {دموع الفرح}، وبات جاهزاً للعرض، فقررت مديحة دعوة فريق العمل في الفيلم والأصدقاء وبالأخص الذين جمعتهم صداقة بالراحل، في مقدمتهم بالطبع محمد فوزي.

مديحة: صباح الخير يا فوزي.

فوزي: صباح الورد والفل فينك ياستي، مختفية ليه؟

مديحة: لا أبداً كنت مشغولة بأصور {المصري أفندي}.

فوزي: وإيه الأخبار؟ خلصتم؟

مديحة: تقريباً قربنا... ادعِ لنا نخلص.

فوزي منزعجا: مالك يا مديحة صوتك بيقول إنك مش مبسوطة خالص، احكي لي مالك، إحنا مش أصحاب ولا إيه؟

مديحة: طبعاً يا فوزي... مفيش حاجة أنا بس مرهقة من الشغل، وأعصابي مشدودة بس وعاوزة نخلص على خير، أنت عارف حسين حريص جداً في إنتاجه وفي الميزانية اللي بيحطها، علشان كده تلاقيني مرعوبة أغلط غصب عني ونضطر نعيد.

فوزي ضاحكاً: علشان بس تعرفي الفرق بين إنتاجي وإنتاج غيري، شفتي معايا كنت مرتاحه إزاي؟

مديحة: بس أنا كمان كنت مذاكرة كويس ومش بغلط.

فوزي يتابع حديثه ضاحكاً: يا ستي ولا يهمك فداك فلوس الدنيا كلها، المهم ضحكتك الحلوة متغبش أبداً.

مديحة: ربنا يخليك يا فوزي، يووه نسيتني أنا مكلماك ليه.

فوزي باهتمام: خير يا مديحة أؤمري.

مديحة: مرسي يا فوزي... أنت عارف أن فطين عبد الوهاب كمل فيلم سالم الله يرحمه، بصراحة طلع شاطر جداً وقدر يقفل الفيلم وخلص المونتاج بالضبط كأنه سالم، علشان كده قررت نعمل افتتاح كبير للفيلم وأهو نحيي برضه ذكراه.

فوزي: طبعاً طبعاً... فكرة هايلة... وتعيشي وتفتكري دايماً، أنا أول واحد معزوم طبعاً.

مديحة ضاحكة: أنت صاحب بيت يا محمد وأبو الكرم كمان، أنت ناسي أنه لولا تشجيعك وإصرارك وحماسك مكنش الفيلم ده خلص.

فوزي: لا أبداً أنا معملتش غير الواجب.

افتتح الفيلم في 23 يناير 1950، وحقق نجاحاً {معقولا} وليس كما كانت تحلم بطلته، رغم أنه كان آخر أفلام سالم {الدنجوان} صاحب الرصيد الأكبر من المعجبات، مرّ الفيلم تقريباً مرور الكرام، خلافاً لحياة بطله المليئة بالصخب والضجيج، ورغم الدعاية التي كثفتها مديحة، بالكاد نجح الفيلم في تغطية كلفته، وفي تسديد مديونيات بطله، ليغلق ملف الفيلم وبطله إلى الأبد، ولم يتبق من علاقتها به إلا الذكريات وابنته الوحيدة، التي مدت مديحة معها حبل الوصال، وفاءً للرجل الذي منحها السعادة.

فرصة العمر

رغم أن امرأة القوس تتجنب المسؤوليات قدر الإمكان، فإن مديحة كانت، على العكس من ذلك تماماً، تبرع في التصدي لها بل وإنجازها على أكمل وجه، أيضاً طبيعتها الطموحة ورغبتها الدائمة في التميز، دفعاها للبحث عن شكل مختلف تطل من خلاله على جمهورها، صحيح أنها كانت تجتهد في اختيار الأفضل وسط المعروض عليها، إلا أن السائد والمتداول حينها لم يجنح بعيداً عن الصورة التقليدية للمرأة، المهمشة حياتياً ومن ثم على الشاشة، فهي إما أرستقراطية مسجونة في تقاليد وعادات وتبحث عن حب يخلصها، أو فتاة مغرر بها، ضعيفة ومستسلمة، و... إلى آخر تلك النماذج التي يمكن تلمسها بوضوح في السينما التي ظهرت في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي.

 باختصار بدأت مديحة مرحلة من النضج الفني، ولم تعد ترتاح للمشاركة بأفلام لا تحمل جديداً، بما يضعها في دائرة التميز وسط ساحة لا تعترف إلا بذلك، لذا فكرت، مراراً، أن تخوض تجربة الإنتاج منفردة، مستندة على خبرتها السابقة وإلمامها بخيوطها وتفاصيلها، إلا أنها كانت دوماً تتراجع لعدم وجود نص جيد يحفزها على خوض التجربة، إلا أن القدر منحها فرصة لتغيير جلدها، أو إن صح التعبير {الكشف عن جوانب خفية في موهبتها}.

دق جرس التلفون صباح أحد الأيام في منزل مديحة، وكانت تتأهب للنزول لتلحق بموعد تصوير في آخر مشاهد فيلمها {المصري أفندي}، تصورت في البداية أن ثمة من يتعجلها للحضور، أو تبديلا في الميعاد، إلا أنها فوجئت بصوت أستاذها يوسف وهبي، على الطرف الآخر، يلقي عليها تحية الصباح:

يوسف وهبي: صباح الخير يا مديحة... أنا صحيتك من النوم.

مديحة: لا أبداً يا أستاذ أنا صاحية من بدري، أنت عارف يا أستاذنا أنا دايما بحب أصحى بدري، ده أنا كمان كنت بجهز عشان نازلة عندي تصوير.

وهبي: طيب مش حاعطلك أنا بس كنت عاوز أعزمك تيجي تشوفي روايتي الجديدة، وأنا واثق أنو موضوعها حيعجبك وحيكون مفاجأة بالنسبة لك؟

مديحة: أنت كل شغلك بيعجبني يا أستاذ وحضرتك طبعاً عارف، وأكيد مش مستني رأيي.

وهبي: بالعكس أنا دايماً يسعدني أعرف رأيك ومهتم بيه جداً، وصدقيني، دايماً بكون قلقان مع كل عمل جديد، وعلشان كده بحب أعرف رأي القريبين مني لأنهم حيقولوه بصراحة.

مديحة: بس حضرتك فنان كبير... أستاذنا كلنا وأكيد واثق في نجاحك.

وهبي بصوته الرخيم المميز: لو الفنان مشعرش بالقلق على شغله يبقى دي بداية النهاية يا مديحة يا بنتي، يالا مش ح اعطلك منتظرك يوم الجمعه تشوفي الرواية وتقوليلي رأيك.

مديحة: حاضر يا أستاذ.. نهارك سعيد.

أنهت مديحة المكالمة مع أستاذها، وعادت إلى غرفتها لتجهز ما تبقى من احتياجاتها، ولم تنس بالطبع مراجعة مشاهدها أكثر من مرة تفادياً لأي مشاكل مع حسين الذي لم يفلح في إخفاء غضبه، إذا اضطرت للإعادة.

لم تخبر يوسف بك وهبي بوصولها إلى المسرح، لكنها فوجئت به، وقد حجز لها مكاناً مميزاً، فجلست تنتظر بدء العرض، وفي الموعد المحدد بالثانية سمعت الدقات الثلاث الشهيرة إيذاناً بالبدء.

طوال العرض كانت مديحة مبهورة بما تراه، فهو يختلف عما يقدمه وهبي دوماً في عروضه، والرواية تدافع عن حق المرأة في العمل، وسط مجتمع محافظ لا يؤمن أصلا بهذا الحق إلا اضطراراً، أو بتعبير أدق إذا تطلبت الظروف ذلك بأن فقدت عائلها، وبعيداً تماما عن فكرة التحقق وما إلى ذلك من الأفكار التي بدأت تتلمس طريقها إلى المجتمع آنذاك على استحياء.

كانت مديحة مأخوذة بالفكرة وبطريقة معالجتها، شعرت بأن القدر وهبها ما كانت تحلم به واجتهدت طويلا في البحث عنه، لمعت الفكرة في ذهنها لدرجة تمنت معها أن ينتهي العرض سريعاً، فتلتقي بطله ومخرجه يوسف بك وهبي، لتخبره بما عقدت العزم عليه.

البقية في الحلقة المقبلة

back to top