قبل 100 عام، وفي خريف 1914 نزلت مدافع البريطانيين على شاطئ الفاو، وسمع الناس دويها عبر عبادان يميناً، والساحل الكويتي يساراً. وبالنسبة لباشوات البصرة، المرفأ السندبادي المتنوع بأعراقه وأديانه، لم يكن الأمر مجرد فاتحة لتقاسم الأوروبيين "تركة الرجل العثماني المريض" انطلاقاً من الحرب العالمية الأولى، بل كان عاملاً لإثارة سجال بشأن المستقبل السياسي، وصيغة الارتباط الجديدة مع الولايات الأخرى (بغداد والموصل) الخليط الذي يكون بلاد "بين النهرين"، كما عرفت في سجلات شركة الهند الشرقية.

Ad

وحتى عام 1920 وتبلور صيغة الانتداب البريطاني التي ستفرز ملكاً عربياً ونظاماً مركزياً، ظل التجار والباشوات العرب واليهود والمسيحيون، يسألون: من سيتحكم في حركة سفننا، ونوع علاقاتنا السياسية، التي تصوغ قوة التجارة، مع الخليج والفرس والهنود وممالك أوروبا؟ وهل سيقوم بغدادي أو موصلي، غير عارف بهذه الشؤون والشجون، بتحديد مصيرنا الاقتصادي والسياسي؟

وتحققت "النبوءة" التي تضمنها القلق على المستقبل، لاحقاً حين خربت تجارة البصرة وميناؤها مراراً، في انقلابات داخلية، وحروب خارجية. وبلغ الأمر بالمحذرين من الخراب، أنهم كتبوا رسالة مهمة وقعها عشرات رجال الأعمال والعوائل السياسية، مرفوعة إلى بيرسي كوكس المندوب البريطاني في العراق، عرضوا فيها عام 1920 مقترحهم لصيغة الانخراط في المملكة العراقية، ببنود "كونفدرالية" تضمن للبصرة شراكة أساسية في صناعة القرار الاقتصادي والبحري والسياسة الخارجية، "كي لا يخرب السوق". واستمد البصريون مشروعية هذا القلق، من السالنامات العثمانية (التقارير السنوية)، التي كانت تسجل أن تجارة البصرة توفر ستين في المئة من ضرائب العراق، بينما تتقاسم الموصل وبغداد الأربعين في المئة المتبقية، وهو إسهام تعاظم بعد اكتشاف النفط (خمسة وثمانون في المئة من البترول العراقي تنتجه البصرة) غير أن توازنات العالم الجديد رفضت مقترح الباشوات، وعدته تخريباً لفكرة العراق الموحد. وفيما بعد حاول الملك فيصل طمأنة البصريين، ووضع في الحكومات الأولى خمسة وزراء من البصرة، وهو تمثيل سرعان ما تلاشى في العهود اللاحقة، وحول المدينة إلى تابع يشعر بالقمع، عبر كل الأنظمة، إذ لا يمثل مدينة السندباد في حكومة نوري المالكي الحالية، أي وزير!

الصالونات السياسية في البصرة، ومنذ 2008، راحت تسترجع قلق الماضي وأسئلته، وحين نظم القاضي وائل عبداللطيف استفتاء لتحويل البصرة إلى إقليم، هرع إلى ترجمة ونشر أطروحة دكتوراه نرويجية كتبها الباحث رايدر فيسر تحت عنوان "البصرة: الجمهورية الخليجية الفاشلة" درس فيها إخفاق النخب البصرية في الحفاظ على استقلالهم النسبي الذي حصلوا عليه في ظل حكم الاتحاد والترقي العثماني قبل الحرب العالمية الأولى.

ولم ينجح القاضي عبداللطيف عام 2008، في نيل موافقة أهل البصرة على إقامة الإقليم، وسط أجواء متشككة ولحظة غموض لفت "عراق الحرب الأهلية" غير أن السنوات اللاحقة شهدت تصاعداً في نمو القناعات الفيدرالية، لدى البصريين، إذ تصاعد إحباطهم بسبب عجز حكومتهم المحلية عن إنفاق نحو 3 مليارات دولار هي حصتهم المقررة من الموازنة العراقية، والسبب أن الموافقات تتأخر في بغداد وتتلكأ معها المشاريع، ما أضاع سنوات عدة وفرصاً تنموية، واحتجز عاصمة النخيل والشعر والبترول البحرية، في صورة كئيبة غاطسة في القمامة والإهمال، رغم أن حظها العمراني والمدني والأمني، أقل سوءاً من المدن العراقية الأخرى.

ويحاول خصوم رئيس الحكومة نوري المالكي الذين نجحوا في الاستحواذ على الحكومة المحلية في البصرة منذ سنة، أن يستخدموا "المطالبة باللامركزية الإدارية" في إقناع الناخب هناك، بعدم التصويت لحزب الدعوة الحاكم في بغداد، وتقليل حظوظ المالكي في نحو 34 مقعداً نيابياً هي حصة البصرة في مجلس النواب العراقي، خلال انتخابات أبريل المقبل.

العارفون بخبايا التوازن السياسي في البصرة، يقولون إن حلفاء المالكي هناك، يبذلون جهداً للتخلص من هذا الحرج، الذي يقدمهم أمام الجمهور، كخاضعين لإرادة المركز البعيد، والمخفقين في تغيير حال المدينة، وقد يصل الأمر أحياناً بـ"مالكيي البصرة" إلى التبرؤ من مواقف زعيمهم المعروف بمعارضته لمبدأ "اللامركزية الإدارية" وإحياء قلق الباشوات القديم، على موجبات "خراب البصرة".