المسار الذي لم تسلكه أوكرانيا

نشر في 03-12-2013
آخر تحديث 03-12-2013 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت في بعض الأحيان قد يكون التاريخ ساخراً مستهزئاً أكثر مما ينبغي، ففي هذا الأسبوع، وبينما تحيي أوكرانيا الذكرى السنوية الثمانين للإبادة الجماعية بالتجويع، وهي المجاعة التي صممها ستالين في أوكرانيا، أعلنت حكومة الرئيس فيكتور يانوكوفيتش أنها لن توقع اتفاقية التجارة الحرة العميقة والشاملة مع الاتحاد الأوروبي في قمة فيلنيوس في الثامن والعشرين من نوفمبر. هكذا وبكل بساطة، يبدو أن فرصة أوكرانيا لتجاوز تاريخها من التعذيب ذهبت أدراج الرياح.

كانت القضية الظاهرية التي أرغمت يانوكوفيتش على الإحجام طلب الاتحاد الأوروبي السماح لرئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو، التي تقضي الآن حكماً بالسجن لمدة سبع سنوات، بالسفر إلى ألمانيا لتلقي العلاج الطبي. وبرغم أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قضت بأن سجنها كان لدوافع سياسية، فإن يانوكوفيتش- الذي يتمتع بسلطة العفو المطلقة- رفض الموافقة على الإفراج عنها، تدفعه في المقام الأول رغبته في منع ترشحها في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية المقررة في عام 2015.

وربما كان من الواجب أن نتوقع انسحاب يانوكوفيتش من أوروبا، نظراً للسلوك- مثل حبس معارضيه السياسيين- الذي كان من الصعب التوفيق بينه وبين القيم الأوروبية والمعايير الديمقراطية. ولكن السلسلة الأخيرة من لقاءاته السرية مع الرئيس السوري فلاديمير بوتين هي التي ختمت مصير الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي.

ذات يوم قال مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو بريجنسكي إن روسيا من دون أوكرانيا تُعَد في نظر روسيا دولة قومية طبيعية، ولكن روسيا مع أوكرانيا تشكل إمبراطورية. ولكن الروس الذين يصدقون أن انسحاب يانوكوفيتش من أوروبا يُعَد انتصاراً عظيماً لابد أن يفكروا مرة أخرى. فتماماً كما كانت الإدارة البشعة من قِبَل بوتين للاقتصاد سبباً في دفع حتى وزير الاقتصاد إلى التنبؤ بالركود لبقية هذا العقد، فإن حنينه الجيوسياسي يوشك أن يكبل الروس بنفس الإمبراطورية المختلة التي أفقرتهم في العهد السوفياتي. والأسوأ من هذا أن نفس النظام فقط- حيث يتولى الأمر الحرس القديم (الشرطة السربة)- هو الذي يبدو قادراً على الإبقاء على هذه الإمبراطورية الاقتصادية المتداعية متماسكة.

وبوسع بوتين أن يتأنق ويجمل نفسه، ولكن الحقيقة تظل أن اقتصاد أوكرانيا بات في وضع أسوأ كثيراً من اقتصاد روسيا. إن الإمبراطورية المتدهورة ديموغرافياً التي تتألف من الرأسماليين المقربين، والتي يفر منها الأكثر موهبة والأفضل تعليماً- نحو ثلاثين ألفاً رحلوا عن روسيا في العام الماضي وحده- من غير المرجح أن تشكل تحدياً استراتيجياً حقيقياً سواء بالنسبة للولايات المتحدة أو الصين. بل على العكس من ذلك، تتطلع الصين إلى استرجاع قسم كبير من شرق روسيا، وهي الأراضي التي أخذت منها خلال سنوات "الذل" في القرن التاسع عشر.

وقد عاينت عن كثب عندما سافرت أخيراً إلى أرمينيا وجورجيا وأوكرانيا الانقسامات داخل الطبقة السياسية والرأي العام بشأن ما إذا كان لهذه البلدان أن تربط اقتصاداتها وأمنها بأوروبا والولايات المتحدة، أو تستسلم لروسيا من خلال العضوية في المجموعة الاقتصادية الأوراسية. والواقع أن النظام الروسي يشبه من بعيد مجال الرخاء المشترك الياباني الإمبراطوري في شرق آسيا في لغته الخطابية وهدفه المتمثل في إخضاع الدول المجاورة. كانت أرمينيا أول دولة سوفياتية سابقة ترضخ لضغوط بوتين وتتجنب الشراكة الشرقية للاتحاد الأوروبي. فبعد أربع سنوات من المفاوضات، هدد بوتين الرئيس سيرج ساركسيان بمضاعفة سعر الغاز الروسي، وسحب الضمانات الأمنية الروسية (أرمينيا متورطة في صراع مرير مع أذربيجان الغنية بالنفط)، كما حذره من أن الجالية الأرمينية الكبيرة في روسيا لن تظل موضع ترحيب ولن يُسمَح لها بالعمل والإقامة في البلاد كما كانت الحال من قبل.  كما جرت محاولات مماثلة للضغط على جورجيا، وتحدث رئيس الوزراء السابق بدجينا إيفانيشفيلي عن الانضمام إلى اتحاد بوتين الجمركي. ولكن في أعقاب الهزيمة الساحقة التي مني بها المرشح الموالي لروسيا علناً نينو بورجانادزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، قرر حزب الأحلام الجورجي الحاكم البقاء على المسار الأوروبي الأطلسي، خصوصاً مع استمرار إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية تحت الاحتلال الروسي. (كما جربت روسيا أيضاً تكتيكات خرقاء غليظة في التعامل مع مولدوفا بالتهديد بحظر صادرات البلاد من النبيذ إلى روسيا والاعتراف باستقلال إقليم ترانسنيستريا الانفصالي).

وبوسع الغرب أن يحد من قوة البلطجة الروسية بطمأنة البلدان السوفياتية السابقة إلى أن الشراكة الشرقية لم تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأن ترتيباً ما أقل قليلاً من مناطق التجارة الحرة المتصورة سوف ينشأ. وبوسع الاتحاد الأوروبي أيضاً أن يستمر في العمل على زيادة فرص الحصول على تأشيرات الدخول، ثم في النهاية السفر بدون تأشيرة. كما يمكنه أن يظل مشاركاً في اتفاقيات التعاون التي تؤثر على الطيران والتجارة والتبادل الأكاديمي والنقل والبنية الأساسية والسياحة والزراعة والتنمية الريفية.

ومن الممكن أن يساعد الاتحاد الأوروبي فضلاً عن ذلك في بناء المؤسسات الديمقراطية: مساعدة الإصلاح القضائي، وزيادة الوعي في مكافحة الفساد، وتشجيع الملاحقة القضائية حتى لمخالفي القانون من أرفع المستويات والمناصب، فضلاً عن دعم مشاركة منظمات المجتمع المدني. ولعل الأمر الأكثر أهمية أن بعض الدول مثل النمسا، حيث أسس بعض أعضاء زمرة يانوكوفيتش شركات غامضة لإخفاء أصولهم غير المشروعة، لابد أن تكف عن غض الطرف عن سلب ونهب بلدان مثل أوكرانيا.

ولكن من المؤسف أن بلدان الاتحاد الأوروبي في عصر من التقشف وهشاشة منطقة اليورو كانت غير قادرة على تحييد التهديدات الاقتصادية الروسية ضد أوكرانيا، خصوصاً خسارة السوق الروسية. ولعل الحل الأكثر جذرية لبلطجة روسيا يتلخص في معادلة الحظر التعسفي الذي فرضته روسيا أخيراً على صادرات أوكرانيا من الشوكولاتة بفرض حظر على الصادرات الروسية من الفودكا للاتحاد الأوروبي.

في النهاية، ربما يكون أنصار حكم القِلة الذين مولوا اندفاعات يانوكوفيتش- خصوصاً رينات أحمدوف أغنى رجل في أوكرانيا- هم الذين سيتخذون القرار النهائي حول مصير أوكرانيا. ومع تضاؤل فرص أوكرانيا الأوروبية فإن اقتصادها- وبالتالي حظوظ أنصار حكم القِلة- سوف يكون تحت رحمة الحرس القديم الروسي. وربما يسارع أحمدوف وأمثاله ذات يوم، عندما يستوعبون المخاطر الطويلة الأجل التي قد تتعرض لها أعمالهم وثرواتهم، إلى حث أعضاء البرلمان الذين يدينون لهم بالجميل على تحويل ولائهم والاتحاد مع القوى الموالية للاتحاد الأوروبي في محاولة لاستعادة مستقبل أوكرانيا الأوروبي.

* تشارلز تانوك | Charles Tannock ، منسق الشؤون الخارجية لتكتل المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين في البرلمان الأوروبي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top