مع اقتراب العام من نهايته، من الطبيعي أن يتساءل المرء ماذا قد يخبئه له المستقبل، ولكن بدلاً من التساؤل حول ما يخبئه لنا عام 2014، فاسمحوا لي أن أقفز إلى منتصف القرن، تُرى كيف قد يبدو الحكم في عام 2050؟

Ad

هذا هو السؤال الذي طرحه المنتدى الاقتصادي العالمي في اجتماعه الأخير في دبي والذي ركز على مستقبل الحكم في ظل ثلاثة سيناريوهات محتملة ناشئة عن ثورة المعلومات المستمرة، ومع تسبب هذه الثورة بالفعل في تهميش بعض البلدان والمجتمعات- وخلق فرص جديدة لآخرين- فإن هذا السؤال يأتي في وقته المناسب تماما.

كان السيناريو الأول الذي تناوله المشاركون يتلخص في عالم محكوم بما يسمى بـ"المدن الكبرى"، حيث يدار الحكم إلى حد كبير بواسطة تكتلات حضرية كبرى. ويدور الاحتمال الثاني حول عالم تستخدم الحكومات المركزية القوية بيانات ضخمة لتحصين سيطرتها. وفي السيناريو الثالث تصبح الحكومات المركزية ضعيفة بشكل جوهري، حيث تقدم الأسواق- والمؤسسات التي تهيمن عليها- كل الخدمات تقريبا.

كل من هذه السيناريوهات يمثل استقراءً للاتجاه الحالي. وفي حين قد تكون جميعها مفيدة في بعض النواحي، فإنها تنطوي أيضاً على مظاهر إذا تركت بلا ضابط أو رابط فقد تؤدي إلى نتائج بائسة. ويتعين على صنّاع السياسات أن يسارعوا إلى تنفيذ السياسات الرامية إلى إرشاد اتجاهات مثل التوسع الحضري، وصعود البيانات الضخمة، وتجميع الناس في المجتمعات الضيقة، استناداً إلى علاقاتهم بالسوق غالبا.

ولابد أن يكون الهدف هنا استغلال الفوائد المحتملة من هذه الاتجاهات، وفي الوقت نفسه ضمان عدم تسببها في تقويض جوانب أخرى بالغة الأهمية من الحكم. على سبيل المثال، رغم أن المدن الكبرى لديها القدرة على خلق فرص جديدة للعمال والشركات، فإنها لا تستطيع حل المشاكل العالمية مثل تغير المناخ أو إدارة الإنتاج وحماية المنافع العامة الوطنية والعالمية.

على نحو مماثل، ورغم أن استخدام البيانات الضخمة ينطوي على إمكانية كبرى في حل المشاكل، فإن السؤال المهم يظل يدور حول من يملك هذه البيانات ومن يسيطر عليها ومن يتولى تنظيمها. وتثير فكرة "حكم البيانات" الخوف من نشوء نظام أشبه بعالم جورج أورويل الذي وصفه في كتابه "1984". والواقع أن الكشف مؤخراً عن برامج المراقبة التي تديرها وكالة الأمن القومي لا يكاد يخدش حتى سطح القضية. ذلك أن استخدام البيانات الضخمة ليس مقتصراً على الحكومات والشركات؛ إذ قد تستغل هذه المعلومات جماعات إجرامية مجهولة بسهولة أيضا.

وأخيرا، ورغم أن الاختيار الفردي داخل الأسواق قد يشكل غالباً الطريقة الأكثر فعالية لتخصيص الموارد، فإن الأسواق لا تنتج المدد الكافي من المنافع العامة، وهناك في واقع الأمر بعض المنافع التي لا يستطيع القطاع الخاص أن يقدمها ببساطة، وقد يبدو هذا النظام مقبولاً في نظر أولئك الذين يعيشون داخل "مجتمعات مغلقة" والذين قد يستفيدون منه، ولكن ماذا عن كل هؤلاء العالقين في الخارج؟

وقد تناول مجلس الأجندة العالمية بشأن مستقبل الحكم التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي، والذي أشكل جزءاً منه، بعض الطرق التي يمكن من خلالها استخدام تكنولوجيا المعلومات لتحسين الحكم والحد من مشاعر الاغتراب بين المحكومين، وقد لاحظ المجلس أن المبادرات الأكثر فعالية كثيراً ما تنشأ عن شراكات بين الحكومات والقطاع الخاص.

على سبيل المثال، في كينيا قامت شركة خاصة بتطوير نظام لسداد فواتير الهاتف المحمول يسمح للمستخدمين بتحويل المال باستخدام هواتفهم المحمولة، الأمر الذي أدى فعلياً إلى نشوء نظام مصرفي أكثر سرعة مما قد تتمكن الحكومة من توفيره. وبمجرد إنشاء النظام بشكل خاص فإن الحكومة تستطيع استخدامه لتوفير خدمات إضافية.

ونتيجة لهذا فإن أي مزارع كيني في منطقة نائية قادر الآن على الحصول على المعلومات حول أسعار المحاصيل أو صناديق تحويلات الأموال من دون الاضطرار إلى السفر لمسافات طويلة والانتظار في الطوابير، ورغم أن مثل هذه المبادرات من غير الممكن أن تحل مشكلة التفاوت بين الناس، فإنها قادرة على المساعدة في تخفيف بعض أكثر تأثيراتها ضررا.

وفي وقت يتسم بالتغير الاجتماعي السريع والتقدم التكنولوجي الذي لا يتوقف، فإن الجهود الرامية إلى تحسين الحكم- على المستوى المحلي أو الوطني أو الدولي- سوف تتطلب التفكير المتأني والتجريب، من أجل تحديد كيفية الموازنة بين عملية صنع القرار الشامل والاحتياجات الدائمة التطور للأسواق، أو كما تساءل الدبلوماسي الأميركي هارلان كليفلاند ذات يوم: "كيف قد يتسنى لنا أن نشرك الجميع في اتخاذ القرار، ونتمكن رغم ذلك من الإنجاز؟"

ولنتأمل هنا المؤسسات الدولية. إن العالم اليوم منظم في نحو 200 دولة؛ ومن المرجح أن يظل الرقم نحو ذلك في عام 2050، ولكن ستة عشر من الكيانات الحكومية فقط تمثل ثلثي دخل العالم وثلثي سكانه، وقد دافع كثيرون عن استخدام "الأغلبية المزدوجة"- التي تتطلب تحقيق أغلبية الأصوات وفقاً لمعيارين منفصلين، عدد السكان والناتج المحلي- لانتزاع العمل من عدد معقول من الدول مع العمل في الوقت نفسه على تعزيز نفوذ الدول الأضعف في عملية صنع القرار.

ولكن رغم أن مجموعة العشرين تحركت في هذا الاتجاه، فإن النهج المستخدم في تحديد الأجندة العالمية يظل معيبا، والواقع أنه يبدو الأكثر فعالية في أوقات الأزمات؛ أما في الأوقات الأقرب إلى الحالة الطبيعية فإن مجموعة العشرين تناضل في محاولة لإنجاز الأمور كما رأينا.

وعلاوة على ذلك، فحتى إذا ساعد نظام الأغلبية المزدوجة في تمكين بعض الدول الأضعف، فإنه لا يأخذ في الحسبان الدور الذي تلعبه البلدان الأصغر حجماً في عملية صنع القرار العالمي. ورغم أن هذه البلدان تمثل نسبة صغيرة من سكان العالم فإنها تضم أغلبية كبيرة من إجمالي عدد البلدان.

ومن بين الحلول المحتملة أن تمثل البلدان بعضها بعضا، كما يحدث في صندوق النقد الدولي، ولكن تجربة صندوق النقد الدولي تكشف عن تحديات كبيرة في التنفيذ.

الواقع أن زعماء العالم لم يتوصلوا بعد إلى كيفية التوفيق بين القناعة الأخلاقية بأن كل الناس سواسية وبين حقيقة بسيطة مفادها أن كل البلدان ليست سواسية، ففي عصر المعلومات العالمي يتطلب نظام الحكم القادر على معالجة قضايا جوهرية، مثل الأمن والرفاهة الاجتماعية والحرية والهوية، إنشاء تحالفات صغيرة بالقدر الكافي للعمل بكفاءة والقدرة على اتخاذ القرار بشأن ما يجب القيام به حيال أولئك غير الممثلين.

من الواضح أن كل هذا يدعو إلى قدر أعظم كثيراً من التحقيق، واستكشاف سيناريوهات المستقبل المحتملة كما فعل المنتدى الاقتصادي العالمي، كخطوة بالغة الأهمية في الاتجاه الصحيح.

* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye ، أستاذ في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "هل انتهى القرن الأميركي؟"، ومؤخرا تولى الرئاسة المشتركة لمناقشات مجموعة أسبن الاستراتيجية لتنظيم الدولة الإسلامية والتطرف في الشرق الأوسط.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»