"ماذا يريد المصريون؟".

Ad

كان ذلك أكثر سؤال سمعته خلال الأسبوعين الأخيرين.

لقد قادتني الظروف، في نهاية شهر أكتوبر الماضي، إلى جولة أوروبية واسعة شملت عدداً من الدول المؤثرة، حيث التقيت خبراء ومفكرين وسياسيين وإعلاميين، أظهروا اهتماماً واضحاً بما يجري في مصر وما يجري حولها.

لا تبدو الإجابة عن السؤال سهلة على أية حال؛ ولذلك، فقد كانت العبارة الثانية الأكثر تردداً، على لسان المضيفين الأوروبيين، في تلك الجولة، هي: "أنتم (المصريين) في وضع صعب".

نعم... يبدو أن المصريين في وضع صعب فعلاً.

لقد كان برفقتي عدد من الكتاب والمفكرين والإعلاميين البارزين، الذين يحتلون أفضل مكانة بين نظرائهم في مصر والعالم العربي في آن، ولقد صوّت معظمهم لمرسي وحزب "الحرية والعدالة" (الذراع السياسية لتنظيم "الإخوان") في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي شهدتها مصر أخيراً. رغم ذلك، فقد كانوا جميعاً ضد مرسي و"الإخوان" في 30 يونيو الفائت، ومعظمهم ناضل من أجل إنهاء حكم تلك الجماعة.

على الجانب الآخر، فإن معظم هؤلاء، إن لم يكن كلهم، لا يريد، ولا يقبل، ولن يسكت إذا تم الانقضاض على مطالب ثورة يناير (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية)، أو وقعت مصر تحت "حكم عسكري"، أو تمت إعادة إنتاج الاستبداد، الذي تخلص المصريون منه مع إطاحة مبارك.

لا يمثل هؤلاء أنفسهم فقط، بل هم يمثلون قطاعاً عريضاً بين المصريين.

انتخب عشرات الملايين من المصريين مرسي وجماعته في الرئاسة والبرلمان، وانتفض عشرات الملايين من المصريين ضدهم.

يؤيد عشرات الملايين من المصريين مساندة الجيش للحراك الشعبي الطاغي والتظاهر العارم في 30 يونيو الفائت، ويخشى هؤلاء عودة نظام مبارك أو الانقضاض على المكتسبات التي تحققت بفعل ثورة يناير.

يريد هؤلاء الاستقرار وعودة الأمن وتحقيق النمو الاقتصادي، لكنهم حريصون على عدم المساس بالحق في التظاهر والاعتصام، ويعارضون بشدة أي مماسات حادة أو فظة من جانب الشرطة، كما يعارضون محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية.

يريد هؤلاء انتخابات ديمقراطية عادلة ونزيهة في أجواء من الحرية الكاملة وتحت رقابة دولية، لكنهم يعرفون أن 40% من أبناء بلدهم تحت خط الفقر، ويعانون الأمية، وأغلبهم يتم "شحنه" للتصويت في اتجاه معين عبر شراء صوته، أو إقناعه بأن يصوت لمصلحة "الإسلام"، و"الإخوان والسلفيين الذين يدافعون عنه، ويسعون إلى إقامة دولته".

فما الذي يريده المصريون إذن؟

في يوم 30 يونيو الفائت، كان نظام "الإخوان" الحاكم في مصر يقف مستنداً إلى نتائج خمسة استحقاقات انتخابية صبت كلها في مصلحته، لكنه مع ذلك كان يعرف أنه لا يحظى بما يكفي من الاستقرار والقبول والرضا.

تندر كثيرون على أن مرسي خصص الجزء الأكبر من خطابه الأخير كرئيس، لترديد كلمة "شرعية"، لكن أكثرهم اعتبر أن ترديده لتلك الكلمة يعكس "زهواً وتشبثاً بالشيء الوحيد الذي يوقن أنه يمتلكه"، أما أنا فكنت أعتقد أنه يريد أن يثبت امتلاكه شيئاً افتقده بالفعل.

نتائج الانتخابات تعطيك الإذن لتحكم، وتمنحك المبرر لتُفعّل سياساتك ورؤاك، وتنفذ ما تراه صواباً، لكن الشرعية تأتيك مع الرضا والقبول، وتتكرس بقدرتك على الإنجاز ومقابلة توقعات الناس.

سيمكنك أن تلاحظ أن النظام الحاكم في مصر راهناً لا يستند إلى نتائج أي صندوق، وأن مصر لا تملك سلطة عامة منتخبة واحدة، وهناك تشكيك في درجة استقلالية الكثير من الهيئات، بل هناك أيضاً حالة طوارئ وحظر تجوال، لكن مع هذا لا توجد دكتاتورية، ولا طغيان، والخطوط مفتوحة بين الجمهور والنخب والقوى السياسية والمجتمع المدني والسلطة الحاكمة... والأهم من ذلك، أن هناك درجة من القبول والرضا والاقتناع تسمح باستقرار الحكم.

لم يأت الرئيس المؤقت الحالي بانتخابات، ولم تهتف باسمه الجماهير في المسيرات، ولم تُعلق صوره على الجدران، لكنه لم يرتكب أخطاء تحشد الملايين في الشوارع ضده.

التنظيم الدولي لـ"الإخوان" يخطط ويرسم السياسات، والمال السياسي المشبوه يتدفق على البلاد، وبعض الدول الإقليمية يبذل جهوداً مضنية لإبقاء حركة الاحتجاج وعدم الاستقرار قائمة في مصر، والإرهابيون يضربون في سيناء، وآلاف المصريين يتظاهرون أسبوعياً دفاعاً عن "الشرعية"، أو المطالبة بـ"عودة مرسي"، أو لـ"نصرة الإسلام"، لكن الأغلبية العظمى من الجمهور لا ترى، وإن رأت لا تهتم.

لماذا لا يتحرك الجمهور إذن؟ لماذا لا تتظاهر الملايين في الشوارع لإطاحة نظام الحكم الحالي الذي تبدو إطاحته أسهل، لأنه لا يستند إلى نتائج صناديق الانتخابات؟

الجمهور لا يتحرك لأنه يثق بالنظام المؤقت الراهن، ولأنه يعرف أن مصر تواجه الإرهاب، ولأنه سحب "التفويض" من الفريق الآخر، ولأن النظام لا يطغى ولا يستبد، ولأن هناك درجة مقبولة من الرشد في ممارسة السلطة والصلاحيات، ولأن هناك أملاً في المستقبل.

لماذا تحتل الصين تلك المكانة الدولية المميزة؟ وتنافس أعتى دول العالم اقتصادياً؟ وتتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي؟ ولماذا تحقق تقدماً مطرداً في معدلات التنمية البشرية؟

لم تكن الديمقراطية هي السبب في تحقيق تلك النتائج، بل إن الديمقراطية لم تنجح في تحقيق مثل تلك النتائج في باكستان أو حتى في الهند.

حققت الصين تلك النتائج، لأن نظام الحكم فيها استطاع أن يحافظ على استقرار البلاد وسلامتها الإقليمية، ومنحها القدر الواجب من الشعور بالمكانة والفخر الوطني، وأخرج 400 مليون مواطن من الفقر إلى الكفاية، فحظي بالقبول والرضا، وامتلك شرعية الإنجاز.

يجب أن يقارن المصريون بين عُمان واليمن، والإمارات وليبيا، والسعودية والعراق، ولبنان وإسرائيل، والجزائر والمغرب، ليدركوا أن الديمقراطية ليست سر التقدم الوحيد، وأن الموارد ليست عامل الازدهار الوحيد، وأن قلة عدد السكان ليست سبب الرفاه، ولا عنوان الضعف وقلة الحيلة.

الفرق بين الصين وروسيا الاتحادية ودول الخليج العربية من جانب، وباكستان والعراق وليبيا من جانب آخر، يكمن في تمتع أنظمة الجانب الأول بشرعية الرضا والقبول والإنجاز، في مقابل افتقاد أنظمة الجانب الثاني ذلك، رغم تمتعها بعوائد النفط أو الانتخابات النزيهة الخاضعة للمراقبة الدولية.

كيف استطاعت الصين والإمارات وروسيا تحقيق ذلك؟

استطاعت تلك الدول تحقيق ذلك عبر "الحوكمة"، التي يُعرّفها البعض بأنها "خليط من السلام والنظام والحكم الرشيد، عبر ممارسة حركية لسياسة الإدارة العامة وطاقتها. ورغم أنها لا تقنن منح السلطة أو تنازعها في أحيان عديدة، فإنها تلزم الحكم بقرارات ناجعة تصادف التوقعات، وتحتم التحقق من الأداء".

هل تعني "الحوكمة" إذن إقامة نظام استبدادي، وانتهاك حقوق الإنسان، وممارسة الطغيان، وإعلان الدكتاتورية؟

لا... على العكس تماماً. "الحوكمة" تتطلب استقرار النظام، وهو أمر لا يتم من دون القبول والرضا، وهذان العنصران لا يتحققان في ظل الاستبداد والطغيان، بل يتحققان من خلال الإنجاز، وإخضاع الأداء للتقييم، ومحاربة الفساد، وحماية المصالح العليا، وصيانة الأمن القومي، وتحقيق التوقعات.

لكن "الحوكمة" لا يمكن أن تكون النظام المستقبلي الدائم لأي شعب من الشعوب، بل هي الفترة الانتقالية التي يمكن أن تقود شعباً يرفض البقاء تحت الطغيان والفقر والجهل والاستغلال الشائن للدين، إلى بناء مؤسسات ديمقراطية، واعتماد آلية تنافسية لنقل السلطة بناء على تصويت الجمهور في الصناديق.

يحتاج المصريون إلى شيء من هذا القبيل.

يحتاج المصريون إلى عشر سنوات من الحوكمة، ممثلة في نظام عادل، رشيد، يخضع للمساءلة والمحاسبة والتقييم بآليات شفافة. يستلزم ذلك الحفاظ على مناخ الحرية، واستخدام عوائد النمو في تحقيق العدالة الاجتماعية، واعتماد المعايير الدولية لحقوق الإنسان. ورغم أن مثل ذلك الوضع يحتم التداول السلمي الآمن للسلطة، فإنه لا يبقيها محل تنازع عبر الانتخابات، ولا يوزعها على الأحزاب، أو يفتتها في البرلمان، وإنما يحافظ على وحدة الفعل ومركزيته، من خلال نظام رئاسي واضح، لم تعرف تلك البلاد غيره على مر آلاف السنين.

* كاتب مصري