احفظ رأسك
نعم سقط الكثير من الشهداء نتيجة فوضى التغيير ودفاع الفاسدين عن مكاسب حققوها، إلا أن الحق كان أقوى فمرت البلاد بمرحلة خطيرة لم تكن فيها صورة لأمل سوى البحث عن عقلاء يخرجونها من مأزق التغيير الشامل بطريقة كلفت الكثير من الأرواح والمال،
منذ كنت طفلا وأنا أسمع عبارة يقال إن أصلها إنكليزي، وهي: "احفظ رأسك عند تغيير الدول!"، ولسنا في حاجة إلى جهد كي نفهم القصد منها إذا ما رجعنا إلى الوراء حقبة من الزمن حين كان الاستعمار يتحكم في كل بلادنا العربية، ويسيطر عليها مكانا وزمانا وعلى كل خيراتها، ذلك أن تبدل الحكام الذين صنعهم المستعمر ليقوموا نيابة عنه بكل ما أوكل لهم من أدوار قد خلق حالة من الخوف الذي وصل حد الرعب من عسسهم وجواسيسهم على كل الأمة، فما سلم "مشتبه فيه" من بطش أو قتل. كان أسلوب الحياة في ظل المستعمر يقضي بقطع السبيل على الأمة لمجرد حديث أو همس يتناول أوضاعها المزرية وضياع خيراتها، أو الثورة التي كانت قائمة رغم كل المحاذير وعدم التكافؤ في العتاد والعدة! ولم يكن اغتصاب أرض فلسطين بعيداً عن هذه المقولة التي حاول المستعمر وأعوانه والمخططون لاغتصاب الأرض جاهدين أن يجعلوا منها مثلا يردده العامة، ويتوجسوا من كل من يجالسهم خوفا وحيطة.
اليوم، ونحن نعيش زمنا آخر وظروفا مختلفة... هل بقيت هذه المقولة بنفس الأثر في روح الأمة وأفرادها على طول الوطن العربي وعرضه؟ أم أن الزمن قد أفقدها صفتها وفعلها؟ لا شك أن السنوات الخمسين الأخيرة التي عاشها الوطن العربي من ثورات تحررية، وتطلع إلى بناء الدولة التي استقلت وتحررت من المستعمر قد خلق مناخا مخالفا فيه "بعض الطمأنينة، ولا نقول كل الاطمئنان". ذلك أن بعض الأنظمة التي جاءت بعد التحرر، وأمسكت زمام الحكم قد عملت على أن تبقى المقولة التي ذكرناها على نفس التأثير بعد أن ألبسوها ثوبا جديدا، فعملت هذه الأنظمة على المبالغة في أشكال النتائج المؤلمة التي تعرض لها كل من "يثرثر" حبا في إصلاح الوطن ورفعة شأنه؛ بعيدا عن تصور النظام أو مجاراته وتبعيته والخضوع بالانتماء إلى مؤسساته التي حكمها العسكر بالملابس المدنية. أنتجت هذه الحالة "منافقين للنظام" كبروا وطالت أيديهم كل ما استطاعت الوصول إليه من خيرات البلاد، وأمعنوا في الفساد الذي وصل إلى "لقمة العيش" في فم الفقير، دون اكتراث أو حساب لمعنى أن يجوع الفقير، فلا يجد لقمة تسد رمقه، وهي النقطة التي عندها يتساوى الموت مع الحياة، فلا يكون للمقولة السالفة الذكر "احفظ رأسك عند تغيير الدول"، أي قيمة أو معنى، أو حتى التفكر في أي نتيجة سوى سقوط هذا النظام الحاكم مهما كلف الأمر. هذا ما وصلنا إليه في سنوات الثورات العربية الجديدة في السنوات الثلاث الماضية، لعلنا نذكر "محمد البوعزيزي" الشاب التونسي الذي كشف رأسه علنا كأول خارج على هذه المقولة من دهاليز الفقر الذي جعله يشعل في نفسه النار، احتجاجا على وضعه الذي ما تحملته نفسه المضطهدة، فكان جسده النحيل أول شرارة تحرق كل ما كتب وتردد من أثر لهذه المقولة البائسة، فسقط حكم "زين العابدين-تونس"، و"مبارك -مصر" و"القذافي- ليبيا" و"علي عبدالله صالح-اليمن". سقط الخوف كلياً حين ثارت مصر بشبابها بطريقة لم يسبقهم إليها أحد في العصر الحديث، وتمرد الشعب بكل فئاته على نظام استبد بكل خيرات البلاد حتى أسقطه. نعم سقط الكثير من الشهداء نتيجة فوضى التغيير ودفاع الفاسدين عن مكاسب حققوها، إلا أن الحق كان أقوى فمرت البلاد بمرحلة خطيرة لم تكن فيها صورة لأمل سوى البحث عن عقلاء يخرجونها من مأزق التغيير الشامل بطريقة كلفت الكثير من الأرواح والمال، وما زالت النتيجة رغم انتخاب رئيس ثان في انتظار أن تستقر بتطبيق نظام جديد ودستور يحفظ لكل فرد كرامته، فلا يخاف على رأسه إذا تغير الحاكم أو الدولة! وليست مصر من دون البلاد العربية سوى مثل سقناه، فالمطلوب أن تختفي هذه المقولة "احفظ رأسك عند تغيير الدول" في كل البلاد العربية، وأن يكون مناخ الحرية بمعناها الحقيقي أكبر، وأن تتسع مساحة العدل (الديمقراطية) لتشمل الجميع بلا استثناء، فهي المخرج الآني والمطلوب في ظل الوضع الراهن الذي لم تتشكل هيئته نهائياً، كما أنها مطلب (العدالة-الديمقراطية) لكل متوافق ومعارض، فهي تحقق ما يفتقده المواطن العربي ويريده منذ سنين طويلة، ولن يقبل بها منقوصة بينما العالم من حوله قطع شوطا طويلا فيها منذ سنوات بعيدة، وهو الآن يجني ثمارها التي منحته الطمـأنينة والتقدم والإبداع في كل مجالات الحياة.* كاتب فلسطيني - كندا