آخر المصابيح
![فوزي كريم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1498033753948674500/1498033754000/1280x960.jpg)
قرأت «موبي ديك» ثانية، ولم أتوقفْ عن قطفِ ثمارِ القراءة التي تمتد قرابة التسعمئة صفحة. كان إحسان عباس، المعني بالتراث العربي عنايته بالتراث الغربي، يقارب لغة مَلفِل الكلاسيكية بلغة عربية مثيلة. وكم كانت طواعية هذه المقاربة يسيرة لديه. كنت أقفز في أحيان كثيرة إلى الأصل الانكليزي لأرى كيف تيسر له أن يضع صياغةَ جملة عربية بهذه الرفعة من صياغة لغة بعيدة. وكثيراً ما أجدني أطربُ لصياغته العربية، وأشعر بالامتنان. لأني قارئ عربي في آخر مطاف القراءة، بالرغم من أني أعيش في لندن، وأقرأ لغتها. إن حرص إحسان عباس لم يكن حرصاً شخصياً فقط، بل حرصَ مرحلةٍ متعافية. كان معظمُ أبناء جيله كذلك. قرأتُ قبل أيام كتاباً عن «قصة الفلسفة الحديثة» لزكي نجيب محمود، وآخر عن «فلسفة شوبنهاور» لفؤاد زكريا، وكنت أطمع بخط بياني بالغ الوضوح والدقة لهذه القصة ولهذا الفيلسوف، فأشبع المؤلفان طمعي لا بكرم قلمهما وحده، بل بكرم مرحلتهما. فثقافتهما العربية والغربية كانت وفيةً لبعضهما، ومتكافئة.قبل عامين حضرت، في إحدى البلدان العربية، معرضاً كبيراً للكتب. وكنت أقلّبُ، بفضول المرتاب، صفحاتٍ من كتبه الموضوعة والمترجمة، في حقل الأدب والفكر المقارب له، فوقعت على صحراء جافة، جافية، لا رحمة فيها. على أنها في خضمّ سرابٍ يوهم بالطوفان. حتى صرت أكتفي بعناوين الكتب وحدها عن تصفحها.وكنت ألحظ أن بعض دور النشر، التي لم أستطع اختراق عناوين كتبها كشفاً عن معنى، هي الأكثر جماهيرية. وتذكرت أني صحبتُ مرة كاتباً صديقاً إلى مكتب ناشره في بلد عربي، فصار الناشر يعتذر عن اضطراره لتغيير عنوان كتابه لأنه مباشر وواضح، وأديب هذه الأيام يفضل العنوان الذي لا يكشف عن معنى.في مطلع القرن العشرين بدأت نهضةٌ عربية تعطي ثمارها في حقل مؤسسة الدولة، وفي الحياة الاجتماعية، والحياة الفكرية والأدبية. جاء جيل تتلمذ على رواد هذه النهضة. إحسان عباس، وزكي نجيب محمود، وعلي الوردي وعشرات آخرون نماذج من هذا الجيل. ثم انهارت مؤسسة الدولة، والحياة الاجتماعية والفكرية في مرحلة الثورة الانقلابية. أصبح إحسان عباس وأبناءُ جيله آخرَ المصابيح.