كانت قراءة «موبي ديك» رائعة في الستينيات، حين صدرت بترجمة إحسان عباس. ومن يريد أن يتأمل ما حدث للترجمة في أيامنا هذه، فما عليه إلا العودة إلى قراءة تلك، علّه يرى مقدارَ العافية الروحية والعقلية النافعة فيها، ومقدارَ التردي الروحي والعقلي المضر في ترجمة حاضرنا. وأعتقد أن الكثير من قراء هذه الأيام، الذين تدربوا على الرداءة، لا يُحسنون قراءة تلك، كما لا يُحسن نقاد هذه الأيام قراءة قصيدة لشاعر جدّي. اللغة السليمة صارت ثقيلة على اللسان الأعجم. واللغة العميقة صارت عصية على العقل المُسطّح. لقد انقطعتُ عن قراءة إصدارات الحداثة العربية عن غير إرادة، بفعل ندرة الكتاب منذ أقمت في لندن مطلع 1979. وما كنتُ أعرف أن هذا الانقطاعَ كان لصالحي، مناعةً ضد عُجمةِ اللسان وتسطّحِ العقل، إلا متأخراً. صرت أتأمل حذري من المصطلحات والمفردات التي تفشت تفشي الوباء، من أن تفلت من قلمي أو لساني، بالرغم من أن لهذه المفردات جذراً لغوياً لا غبار عليه. لأن تأملي أوصلني إلى أن مناخَ المرحلة الرديئة قد امتص رحيقَ المعنى في جذر المفردة، ووضعَ بدله وليداً إيهامياً شائهاً من نتاج خلطة غرائبية: مكابرةٌ في الضعف، عقدةُ الغرب، الذعرُ من البديهة، معانقةُ الماضي مصحوبة برغبة في خنقه في اللحظة ذاتها. الهوةُ بين المعرفة والحياة. الإعلامُ الثقافي وتطلع الأنا المرضي.

Ad

حين كنت أحرر مجلة «اللحظة الشعرية» وأستلم بريدها، أجفل من رداءة تلك العجمة وذلك التسطح، المتفشيين في لغة النصوص ولغة الرسائل على حد سواء. ولعل لغةَ الرسائل كانت أكثر إفشاءً للسر من لغة النصوص. لأن لغةَ النصوص تسعى إلى التستر وراء «البيان الحداثي»، و»الشطحات الحداثية»، وتسعى إلى أن تكتسب حرمةً لا يجرؤ قارئ على المساس بها. فمن يجرؤ أن يقول للإمبراطور إنك عار، وعورتك ظاهرة؟

قرأت «موبي ديك» ثانية، ولم أتوقفْ عن قطفِ ثمارِ القراءة التي تمتد قرابة التسعمئة صفحة. كان إحسان عباس، المعني بالتراث العربي عنايته بالتراث الغربي، يقارب لغة مَلفِل الكلاسيكية بلغة عربية مثيلة. وكم كانت طواعية هذه المقاربة يسيرة لديه. كنت أقفز في أحيان كثيرة إلى الأصل الانكليزي لأرى كيف تيسر له أن يضع صياغةَ جملة عربية بهذه الرفعة من صياغة لغة بعيدة. وكثيراً ما أجدني أطربُ لصياغته العربية، وأشعر بالامتنان. لأني قارئ عربي في آخر مطاف القراءة، بالرغم من أني أعيش في لندن، وأقرأ لغتها.

إن حرص إحسان عباس لم يكن حرصاً شخصياً فقط، بل حرصَ مرحلةٍ متعافية. كان معظمُ أبناء جيله كذلك. قرأتُ قبل أيام كتاباً عن «قصة الفلسفة الحديثة» لزكي نجيب محمود، وآخر عن «فلسفة شوبنهاور» لفؤاد زكريا، وكنت أطمع بخط بياني بالغ الوضوح والدقة لهذه القصة ولهذا الفيلسوف، فأشبع المؤلفان طمعي لا بكرم قلمهما وحده، بل بكرم مرحلتهما. فثقافتهما العربية والغربية كانت وفيةً لبعضهما، ومتكافئة.

قبل عامين حضرت، في إحدى البلدان العربية، معرضاً كبيراً للكتب. وكنت أقلّبُ، بفضول المرتاب، صفحاتٍ من كتبه الموضوعة والمترجمة، في حقل الأدب والفكر المقارب له، فوقعت على صحراء جافة، جافية، لا رحمة فيها. على أنها في خضمّ سرابٍ يوهم بالطوفان. حتى صرت أكتفي بعناوين الكتب وحدها عن تصفحها.

وكنت ألحظ أن بعض دور النشر، التي لم أستطع اختراق عناوين كتبها كشفاً عن معنى، هي الأكثر جماهيرية. وتذكرت أني صحبتُ مرة كاتباً صديقاً إلى مكتب ناشره في بلد عربي، فصار الناشر يعتذر عن اضطراره لتغيير عنوان كتابه لأنه مباشر وواضح، وأديب هذه الأيام يفضل العنوان الذي لا يكشف عن معنى.

في مطلع القرن العشرين بدأت نهضةٌ عربية تعطي ثمارها في حقل مؤسسة الدولة، وفي الحياة الاجتماعية، والحياة الفكرية والأدبية. جاء جيل تتلمذ على رواد هذه النهضة. إحسان عباس، وزكي نجيب محمود، وعلي الوردي وعشرات آخرون نماذج من هذا الجيل. ثم انهارت مؤسسة الدولة، والحياة الاجتماعية والفكرية في مرحلة الثورة الانقلابية. أصبح إحسان عباس وأبناءُ جيله آخرَ المصابيح.