فجر يوم جديد: {ألف رحمة ونور}!
دينا عبد السلام فتاة طموحة ولدت في الإسكندرية، وتخرجت في قسم اللغة الإنكليزية في كلية الآداب عام 1998. لم تكتف بهذا، إنما حصلت على درجة الماجستير في الأدب الإنكليزي في العام 2005 ثم الدكتوراه في العام 2010. ورغم أنها تعمل كمحاضرة في قسم اللغة الإنكليزية، وتتولى تدريس النقد الأدبي، والأدب الكلاسيكي، ودراسات الأفلام، فإنها سعت بكل ما أوتيت من قوة كي تصبح صانعة أفلام! تحقق حلم دينا عندما فازت بجائزة {بلازا} لدعم الأفلام القصيرة من مركز الفنون في مكتبة الإسكندرية، وكانت فرحتها بالجائزة كبيرة لأنها عجلت بإنتاج فيلمها الأول {ده مش بايب} (إنتاج 2010) ثم تكررت الفرحة بعد الحصول على الجائزة نفسها، التي كانت سبباً في ظهور فيلمها الروائي القصير الثاني {ألف رحمة ونور}.
كتبت دينا سيناريو فيلم {ألف رحمة ونور} (16 دقيقة / مصر2013) وحواره ولفرط ثقتها في نفسها تقدمت للمشاركة به في الدورة 17 لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة (3 – 8 يونيو 2014). وكانت المفاجأة أن منحتها لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية القصيرة جائزتها الخاصة، وقالت في حيثياتها: {لقدرة شخصيتيه الرئيستين على إثارة مشاعر ووجدان المشاهد، ولتضمنه نصاً على قدر عال من الصدق}.يبدأ الفيلم بلقطة دالة لشوارع الإسكندرية في الليل وفي الخلفية أغنية «سحب رمشه» لمحمد قنديل من كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان عبد العظيم عبد الحق، نلمح من خلالها امرأتين عائدتين بعد أن فرغتا من مواراة زوج إحداهما التراب، وعلى باب الشقة تخلعان أحذيتهما ظناً منهما أن في هذا خلاص من الفأل السيئ، وتتردد آيات من الذكر الحكيم، وتتهيأ «سهير» للنوم بينما تلجأ «ابتسام» للوضوء قبل النوم، تنفيذاً لوصية زوجها الراحل، الذي نصحها بذلك كي تنام طاهرة، وتتجول الكاميرا في الشقة فندرك من الأثاث ومكتبة الزوج الراحل أن «ابتسام» ابنة مخلصة للطبقة المتوسطة تأثرت كثيراً برحيل زوجها، خصوصاً أنها لم تنجب منه، بسبب ما تظن أنه «الحسد». فالإيمان بالغيبيات يمثل جزءاً أصيلاً من ثقافتها ومعتقداتها على عكس شقيقتها «سهير» التي فقدت زوجها أيضاً لكنها رفضت الرجال الذين تقدموا للزواج منها لإحساسها أنهم طامعون في معاش زوجها، ولأنها تُقدس الحرية! يمضي الوقت رتيباً وثقيلاً، وباستثناء لقطة أخرى لشوارع الإسكندرية الصاخبة التي تفيض بالحياة، لا تغادر الكاميرا الشقة، ويكشف الحوار بين المرأتين عن تناقض شخصيتهما، فالأرملة «ابتسام» تؤمن أن «ضل راجل ولا ضل حيط» بينما لا ترضى «سهير» عن الحرية بديلاً. وتقطع المرأتان الوقت في الثرثرة، وكعادة أبناء هذه الطبقة يتمحور حديثهما حول مشاكل التأمين الصحي، والمعاش، ومع اختفاء الصوت تأتي النهاية لتعكس رتابة حياتهما، وما يكتنف مستقبلهما المجهول من غموض!لا يمكن القول إن المخرجة دينا عبد السلام أرادت أن «تستعرض عضلاتها» في تجربتها هذه، لكنها كانت معنية بتقديم حالة إنسانية لامرأتين أصبحتا على الهامش، ولم يعد لهما في الدنيا من يأنسان إليه، ومن ثم استعصى عليهما النوم، فما كان منهما سوى أن استسلما لقدرهما، وتحايلا على مصيرهما بالثرثرة، وربما النميمة، أملاً في الخلاص من الوحدة والحياة الرتيبة، وهو ما نجحت المخرجة في التعبير عنه من خلال كاميرا لا تقل رتابة في حركتها وزواياها «الكلاسيكية»، والإطارات التقليدية، فضلاً عن إيقاع يليق بأجواء الفيلم (مونتاج أحمد مجدي مرسي) وموسيقى خافتة (شادي الجرف) لا تكاد تسمع لها صوتاً. فالأمر المؤكد أن «دينا» صنعت للفيلم مزاجاً خاصاً لا تخطئه الأعين، والمشاعر، وأمكنها أن تقهر أزمة المكان الواحد، وكان بمقدورها أن تصنع فيلماً أكثر تميزاً في حال الاستغناء عن اللقطات القليلة التي خرجت فيها الكاميرا إلى الشارع، ولم يكن الفيلم في حاجة إليها. من هنا فإن لجنة التحكيم كانت محقة عندما أشادت بقدرة المخرجة الشابة على «إثارة مشاعر المشاهد ووجدانه»، ونوهت بقدرتها على إشاعة الصدق في تجربتها، التي يمكن القول إنها اكتملت كثيراً بالاختيار الصائب للممثلتين اللتين جسدتا دوري الشقيقتين، وكأنهما كذلك بالفعل على أرض الواقع، ولولا الثرثرة التي كان يمكن أن تلمس وتراً أكثر إنسانية من التطرق إلى مشاكل «التأمين الصحي» و{المعاش» لكانت التجربة أكثر نضجاً وجاذبية.في الأحوال كافة كشفت لنا تجربة الفيلم الروائي القصير «ألف رحمة ونور» عن إمكانات مخرجة قادرة على التغلغل في أغوار النفس البشرية، والاقتراب من لحظة حميمية في حياة امرأتين لا توليهما السينما المصرية اعتباراً أواهتماماً.